شيخنا العلامة المحدث ربيع بن هادى المدخلى يرد دعاة الإختلاط
صفحة 1 من اصل 1
شيخنا العلامة المحدث ربيع بن هادى المدخلى يرد دعاة الإختلاط
تنزيه الشريعة الإسلامية وحملتها
من فتـنة الاختلاط
كتبه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد:
فقد جاءني أحد طلاب العلم من تلاميذي بعددين من أعداد جريدة عكاظ.
أولهما العدد (15810) الصادر يوم الأربعاء بتأريخ (22من ذي الحجة عام 1430) يحمل مقالاً باسم الدكتور أحمد بن قاسم الغامدي عنوانه: "الاختلاط طبيعي في حياة الأمة ومانعوه لم يتأملوا أدلة جوازه الصريحة".
وثانيهما: العدد (15811) الصادر في يوم الخميس بتأريخ (23/12/1430هـ)، تحت عنوان: "القول بتحريم الاختلاط افتئات على الشارع وابتداع في الدين".
أقول:
لقد خالف هذا الرجل في هذين المقالين نصوص الكتاب والسنة الصريحة في:
1- الأمر بالحجاب.
2- وغض البصر من الرجال والنساء.
3- وتحريم الخلوة بالمرأة.
4- وتحريم الدخول على النساء إلا مع محارمهن.
5- وفصل الرجال عن النساء في أعظم العبادات ألا وهي الصلاة.
6- والفصل بين الجنسين من الصحابة الكرام في التعليم، وفي مجالس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث لا يخالط النساء الرجال لا في تعليم القرآن الكريم ولا في تعليم السنة النبوية المطهرة وفي أفضل الأجواء وأطهرها وأنزهها وفي مجتمع الصحابة الكرام أفضل المجتمعات وأطهرها وأنبلها بعد الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام-.
7- وخالف هذا المجتمع الطاهر مجتمع أصحاب محمد وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون، بل شوههم بدعوى أنَّ مجتمعهم مجتمع اختلاط، حيث قال: " من حرَّموا الاختلاط لم يقتفوا هدي المجتمع النبوي".
8- وخالف علماء الأمة وفقهاءها وشوههم بدعاوى باطلة مثل رميهم بالغلو ومخالفة الآثار النبوية وآثار الصحابة ويجعلهم مع العوام ويرى أن تحريمهم الاختلاط بدعة وضلال، وهذه إهانات للعلماء الذين كرّمهم الله وأثنى عليهم وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة الملائكة، فقال عزّ وجل: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَه إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ) [( آل عمران : 18 )]، وقال تعالى : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) [( فاطر : 28 )] وقال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الألْبَابِ) [الزمر 8 )]، وقال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [( المجادلة : 11)]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "العلماء ورثة الأنبياء"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ من الناس وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حتى إذا لم يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ الناس رؤساً جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا".
ودعاة الاختلاط هم الرؤوس الجهال الذين يقودون الأمة إلى مهاوي الضلال.
9- وخالف قاعدة سد الذرائع المستمدة من عشرات النصوص من الكتاب والسنة.
10- وخالف قاعدة مراعاة المصالح والمفاسد التي راعتها الشريعة في كل شؤون الحياة.
ومما قاله: "القول بتحريم الاختلاط افتئات على الشارع وابتداع في الدين".
وله أقوال غريبة وتصرفات في النصوص عجيبة ستأتي مناقشته فيها إن شاء الله.
11- ويُقدِّم الإباحة الأصلية وهي العقلية على النصوص النبوية والقواعد الشرعية مثل قاعدة سد الذرائع ومراعاة المصالح والمفاسد.
12- أنه يخالف منهج أهل الحديث في التعامل مع روايات الضعفاء التي يُعتبر بها ويُستشهد بها.
قال العراقي في "ألفيته مع التبصرة والتذكرة" (2/10):
"وَأَسْوَأُ التَّجْرِيْحِكَذَّابٌ) (يَضَعْ) يَكْذِبُ وَضَّاعٌ وَدَجَّالٌ وَضَعْ
وَبَعْدَهَا مُتَّهَمٌ بَالْكَذِبِ وَ(سَاقِطٌ) وَ(هَالِكٌ) فَاجْتَنِبِ
وَذَاهِبٌ مَتْرُوْكٌ أوْ فِيْهِ نَظَرْ وَ(سَكَتُوْا عَنْهُ) (بِهِ لاَ يُعْتَبَرْ)
وَ(لَيْسَ بِالثِّقَةِ) ثُمَّ (رُدَّا حَدِيْثُهُ) كَذَا (ضَعِيْفٌ جِدَّا)
(وَاهٍ بَمَرَّةٍ) وَ(هُمْ قَدْ طَرَحُوْا حَدِيْثَهُ) وَ(ارَمِ بِهِ مُطَّرَحُ)
(لَيْسَ بِشَيءٍ) (لاَ يُسَاوِي شَيْئَا) ثُمَّ (ضَعِيْفٌ) وَكَذَا إِنْ جِيْئَا
بِمُنْكَرِ الْحَدِيْثِ أَوْ مُضْطَرِبِهْ (وَاهٍ) وَ(ضَعَّفُوهُ) (لاَ يُحْتَجُّ بِهْ)
وَبَعْدَهَا (فِيْهِ مَقَالٌ) (ضُعِّفْ) وَفِيْهِ ضَعفٌ تُنْكِرُ وَتَعْرِفْ
(لَيْسَ بِذَاكَ بالْمَتِيْنِ بِالْقَوِيْ بِحُجَّةٍ بِعُمْدَةٍ بِالْمَرْضِيْ)
لِلضَّعْفِ مَا هُوْ فيْهِ خُلْفٌ طَعَنُوْا فِيْهِ كَذَا (سَيِّئُ حِفْظٍ لَيِّنُ)
(تَكَلَّمُوا فِيْهِ) وَكُلُّ مَنْ ذُكِرْ مِنْ بَعْدُ شَيْئَاً بِحَدِيْثِهِ اعْتُبِرْ".
أقول: فأهل المراتب الثلاث الأول إلى قوله " لاَ يُسَاوِي شَيْئَا "، لا تقبل رواياتهم إطلاقاً؛ لا في الاحتجاج ولا في الشواهد والمتابعات.
وأهل المرتبتين الأخيرتين من قوله: "ثم ضعيف"، إلى قوله: "كذا سَيِّئُ حِفْظٍ لَيِّنُ تَكَلَّمُوا فِيْهِ"، تقبل رواياتهم في المتابعات والشواهد.
ولا يحتج برواياتهم إذا انفردوا، لكنها تقبل في المتابعات والشواهد وتُقَوي غيرها وتتقوى بغيرها فيصح الاستدلال بها وتقوم بها الحجة.
والكاتب لم يلتفت إلى هذا المنهج في روايات الضعفاء أو من فيهم نوع ضعْف، وأعطاها كلها حكماً واحداً، لا يُفرِّق بين الكذابين والمتهمين وشديدي الضعف وبين غيرهم ممن يُعتبر برواياتهم ويُستشهد بها، بل يرد بعض الروايات الصحيحة التي يرويها الثقات العدول الضابطون، أو يتأولها لتنسجم مع مذهبه الغريب.
وبعد هذه اللمحة عن منهج هذا الكاتب أقول:
إن الله بعث محمداً -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بعثه الله بأكمل رسالة وأشملها فبلغها البلاغ المبين على أكمل الوجوه، ومحور هذه الرسالة القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنـزيل من حكيم حميد، وكلف رسوله محمداً –صلى الله عليه وسلم- ببيان ما فيه من إجمال وتقييد ما فيه من إطلاق إلى جانب ذلك جاءت سنته –صلى الله عليه وسلم- بزيادات على القرآن هي من وحي الله لهذا النبي الكريم والرسول الأمين الذي ما ترك من خير إلا دلنا عليه ولا من شر إلا حذرنا منه حتى تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها هالك.
وأمر الله الأمة كلها بطاعة هذا الرسول الكريم واتباعه في آيات كثيرة، وحذرها من مخالفته، فقال عزّ من قائل: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، ( النور : 63 )
وقال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً).
وأقام الله تشريعاته كلها على الحِكَم ومراعاة المصالح والمفاسد، فما من حكم يشرعه الله إلا وهو مبني على الحكمة ولا ينهى عن شيء إلا وفي النهي عنه حكمة ومصلحة ودرء مفسدة.
وقد فهم علماء الإسلام وفقهاؤه هذه الحِكَم والمصالح والمقاصد لهذه الشريعة الغراء، وأن مدارها على خمسة مقاصد، وهي الضروريات التي يجب حفظها ألا وهي:
1- الدين.
2- النفس.
3- العقل.
4- النسل.
5- المال.
فشرع الجهاد لنشر الدين، وشرع قتل وقتال المرتدين لحمايته.
وشرع القصاص للحفاظ على الأنفس، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) [سورة البقرة : 178 ]، (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ....) [سورة المائدة :45].
وشرع تحريم الخمر بكل أنواعه لحفظ العقل.
وحرّم الزنى لحفظ الأعراض والنسل، وشرع إقامة الحدود على الزناة مائة جلدة للزاني والزانية إذا كانا بكرين، ورجمهما بالحجارة حتى الموت إذا كانا ثيبين.
وسد كل الذرائع الموصلة إلى الزنى، قال تعالى (قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ...) [سورة النور : ( 30 - 31 )].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَى مُدْرِكٌ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاِسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلاَمُ وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ »( ).
وشرع اسئتذان أهل البيوت قبل دخولها فقال تعالى: (يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا...) [سورة النور : 27 ].
وأمر تعالى النساء بالحجاب فقال: (وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى...) [سورة الأحزاب: ( 33 )].
وقال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُُّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ ...) [سورة الأحزاب : ( 59 )].
وعن عروة عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: "يَرْحَمُ الله نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ لَمَّا أَنْزَلَ الله (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ ) شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بها"( ).
والجلباب هو الرداء فوق الخمار، وقال الجوهري هو الملحفة، والقصد من ذلك مخالفة نساء الجاهلية.
وقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ على النِّسَاءِ فقال رَجُلٌ من الْأَنْصَارِ: يا رَسُولَ اللَّهِ فرأيت الْحَمْوَ قال الْحَمْوُ الْمَوْتُ"( ).
وقال تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْألُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ..) [سورة الأحزاب : ( 53 )].
وعن جَرِيرِ بن عبد اللَّهِ قال: " سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ عن نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ، فقال: اصْرِفْ بَصَرَكَ"( ).
وعن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : " يا عَلِيُ! لا تتْبعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ؛ فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة"( ).
وعن ابن شِهَابٍ أَنَّ سَهْلَ بن سَعْدٍ الْأَنْصَارِيَّ أخبره أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ من جُحْرٍ في بَابِ رسول اللَّهِ وَمَعَ رسول اللَّهِ مِدْرًى يُرَجِّلُ بِهِ رَأْسَهُ فقال له رسول اللَّهِ : " لو أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ طَعَنْتُ بِهِ في عَيْنِكَ إنما جَعَلَ الله الْإِذْنَ من أَجْلِ الْبَصَرِ"( ).
وعن أبي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ ما كان عَلَيْكَ من جُنَاحٍ"( ).
كل هذه الآيات والأحاديث التي تحرم النظر إلى النساء الأجنبيات إنما غايتها سد الذرائع الموصلة إلى الزنى وهتك الأعراض.
فإذا عرف المسلمون مكانة هذا التشريع الحكيم، وعرفوا مقاصده ومراعاته لمصالح الأمة ودرء المفاسد التي تضر بهم في دينهم ودنياهم وأخراهم دفعتهم هذه المعرفة إلى أن يعضوا على هذا الدين عقيدة وتشريعاً وأخلاقاً بالنواجذ ودفعتهم إلى الاعتزاز به وإلى الازدراء بمن يخالف هذا الدين الحق وازدراء تشريعاتهم الفاسدة الضارة التي لا تجلب لمن يغتر بها إلا الخزي والهلاك في الدنيا والآخرة.
وإن دعاة التغريب ودعاة الاختلاط بين الجنسين لا يجرون الأمة إلا إلى هاوية هذا الدمار والهلاك، قال تعالى: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً) [سورة النساء : ( 27 -28)]، أي لا يصمد أما الشهوات.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: " ما تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً هِيَ أَضَرُّ على الرِّجَالِ من النِّسَاءِ"( ).
فالفتنة بالنساء أشد وأخطر على الرجال من الفتن كلها ولذا شرع الله لدرئها واتقاء شرها آيات محكمات:
1- منها: قوله تعالى: (قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) [سورة النور : ( 30 )].
تضمنت هذه الآية: أمر المؤمنين بغض الأبصار عن النساء لأن إطلاق النظر إلى النساء وسيلة خطيرة تجر أصحابها إلى فاحشة الزنى.
فحرّم نظر الرجال إلى النساء غير المحارم، وحرّم نظر النساء إلى الرجال من غير محارمهن من أجل ذلك.
2- عطف على هذا الأمر الحكيم السديد الذي يكبح جماح النظر ما يؤدي إليه هذا النظر ألا وهو فاحشة الزنى.
3- بيّن الله الثمرة العظيمة والنتيجة الكريمة للأتقياء الذين يغضون من أبصارهم ويحفظون فروجهم بقوله الحكيم: (ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ)، فامتثال أمر الله بغض البصر وحفظ الفروج يزكي القلوب والنفوس ويطهرها من أدناس وأرجاس الذنوب والشهوات والفواحش.
عقب ذلك بقوله: (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)، أي أنه عليم خبير بصنيعهم لا يخفى عليه منهم شيء، وذلك يتضمن الوعيد لمن لا يغض بصره ولا يحفظ فرجه.
فليغض المؤمن بصره ويحفظ فرجه وليتق الله ربه، فإن الله رقيب على عباده يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وأمر الله النساء بما أمر به الرجال وزيادة، فقال: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) [سورة النور : (31 )].
فأمرهن: 1- بغض الأبصار وحفظ الفروج.
2- وبعدم إظهار زينتهن للرجال إلا محارمهن المذكورين في هذه الآية، والظاهر من الزينة هو الثياب كالجلباب والخمار على القول الراجح.
3- أمرهن بضرب خمرهن على جيوبهن، والخمار هو ما تغطي به المرأة رأسها، والجيوب هي موضع القطع من الدرع والقميص، والأمر بذلك أمر بتغطية وجوههن ونحورهن وصدورهن.
4- ونهاهنَّ عن الضرب بأرجلهن، فقال تعالى: (وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ )، أي لا تضرب المرأة برجلها حين مشيها ليسمع صوت خلخالها الرجال فيعلمون أنها ذات خلخال، فهذا فيه سد الذريعة التي تجر إلى الفتنة.
الله أكبر ما أعظم وأحكم هذا التشريع الرباني في سد الذرائع لقوم يعقلون.
أما من السنة فأورد بعض الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غض البصر، مع التعليقات الخفيفة عليها:
1- فعن جَرِيرِ بن عبد اللَّهِ قال: " سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ عن نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ، فقال: اصْرِفْ بَصَرَكَ "( ).
فنظر الفجأة هو ما يقع من العبد من غير قصد، فأمره بصرف بصره، فإذا وقع بصر العبد على المرأة فجأة من غير قصد فعليه أن يبادر بصرف بصره، ولا يجوز له إدامة هذه النظرة والاستمرار فيها، فإن في ذلك مخالفة لأمر الله وأمر رسوله وفيه ذريعة إلى الوقوع في الفتنة بل والزنى.
2- وعن ابن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : " يا عَلِيُ! لا تتْبعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ؛ فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة "( ).
ففي هذا الحديث تأديب للمسلمين أن يتحكموا في أبصارهم ولا يطلقوا لها العنان، فإذا وقع من المسلم نظرة فجأة إلى امرأة يحرم نظره إليها فلا يجوز له أن يتبعها بأخرى، بل عليه أن يصرف بصره امتثالاً لأمر الله ولأمر رسوله فإنه إن عذره الله في الأولى فلا يعذره في الثانية بل يبوء بإثمها، فما بالك يا أخي بمن يطلق لبصره العنان.
3- وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عن النبي قال: "إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ على الطُّرُقَاتِ فَقَالُوا ما لنا بُدٌّ إنما هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فيها قال فإذا أَبَيْتُمْ إلا الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا قالوا وما حَقُّ الطَّرِيقِ قال غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عن الْمُنْكَرِ"( ).
4- وعن ابن عَبَّاسٍ قال ما رأيت شيئا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قال أبو هُرَيْرَةَ عن النبي : "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ على ابن آدَمَ حَظَّهُ من الزِّنَا أَدْرَكَ ذلك لَا مَحَالَةَ فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ وَالنَّفْسُ تتمنى وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلك كُلَّهُ أو يكذبه"( ).
5- وعن ابن شهاب أن نَبْهَانَ حدثه أن أُمَّ سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ قالت: كنت عِنْدَ رسول اللَّهِ وَمَيْمُونَة،َ فَأَقْبَلَ ابن أُمِّ مَكْتُومٍ حتى دخل عليه وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أُمِرْنَا بِالْحِجَابِ فقال رسول اللَّهِ : "احْتَجِبَا منه فَقُلْنَا يا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ أَعْمَى لاَ يُبْصِرُنَا وَلاَ يَعْرِفُنَا قال أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا لستما تُبْصِرَانِهِ"( ).
6- وعن ابن شِهَابٍ أَنَّ سَهْلَ بن سَعْدٍ الْأَنْصَارِيَّ أخبره أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ من جُحْرٍ في بَابِ رسول اللَّهِ وَمَعَ رسول اللَّهِ مِدْرًى يُرَجِّلُ بِهِ رَأْسَهُ فقال له رسول اللَّهِ : "لو أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ طَعَنْتُ بِهِ في عَيْنِكَ إنما جَعَلَ الله الْإِذْنَ من أَجْلِ الْبَصَرِ" "( ).
7- وعن ابن عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: " كان الْفَضْلُ رَدِيفَ رسول اللَّهِ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ من خثعم، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إليه وَجَعَلَ النبي يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إلى الشِّقِّ الْآخَرِ فقالت: يا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ على عِبَادِهِ في الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أبي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ على الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عنه؟ قال: نعم وَذَلِكَ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ"( ).
فهذه الآيات والأحاديث ذوات العدد يكفي بعضها المؤمن النـزيه لأن ينقاد ويستسلم لله رب العالمين ويكبح جماح نفسه وبصره عن النظر إلى ما حرَّم الله عليه.
ثم يؤمن بما فيها من حكمة وبما تنطوي عليه من مقاصد عظيمة وما تدعو إليه من نزاهة وعفة وما تدعو إليه من تزكية للنفوس وطهارة للقلوب، بل طهارة للمجتمعات من أدناس الاختلاط وأدناس إرسال النظر إلى ما حرَّم الله وسد كل الذرائع الموصلة إلى الفساد.
قال ابن عبد البر -رحمه الله- في "التمهيد" (9 / 123) -معلقاً على حديث ابن عباس عن قصة الفضل ونظره إلى الخثعمية-:
" وفيه بيان ما ركب في الآدميين من شهوات النساء وما يخاف من النظر إليهن وكان الفضل بن عباس من شبان بني هاشم بل كان أجمل أهل زمانه فيما ذكروا.
وفيه دليل على أن الإمام يجب عليه أن يحول بين الرجال والنساء في التأمل والنظر وفي معنى هذا منع النساء اللواتي لا يؤمن عليهن ومنهن الفتنة من الخروج والمشي في الحواضر والأسواق وحيث ينظرن إلى الرجال قال: صلى الله عليه وسلم ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء وفي قول الله عز وجل: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) الآية ما يكفي لمن تدبر كتاب الله ووفق للعمل به "، اهـ.
وتكلم شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في كتابه "بيان الدليل على بطلان التحليل" على قاعدة سد الذرائع كلاماً رصيناً.
عرَّف سد الذرائع بأن الذريعة ما كان وسيلة وطريقاً إلى الشيء.
ثم قال: "أما شواهد هذه القاعدة فأكثر من أن تحصى، فنذكر منها ما حضر".
وساق ثلاثين دليلاً من الكتاب والسنة على وجوب سد الذرائع من (ص351-372).
وساق في طليعتها قول الله تعالى: "(وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهَ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ). حَرَّمَ سَبَّ الْآلِهَةِ مَعَ أَنَّهُ عِبَادَةٌ لِكَوْنِهِ ذَرِيعَةً إلَى سَبِّهِمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ; لِأَنَّ مَصْلَحَةَ تَرْكِهِمْ سَبَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ رَاجِحَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ سَبِّنَا لِآلِهَتِهِمْ".
ولقد رأيت أن أكتفي عن سردها بما اخترته من كلام ابن القيم –رحمه الله- في سد الذرائع.
إذ عقد الإمام ابن القيم -رحمه الله- فصلاً في سد الذرائع في كتابه "إعلام الموقعين" أبلغها إلى تسعة وتسعين وجهاً من (ص147-171)، فلنأخذ منها ما يتيسر من الوجوه.
قال -رحمه الله- في طليعة هذا الفصل:
"لَمَّا كانت الْمَقَاصِدُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا إلَّا بِأَسْبَابٍ وَطُرُقٍ تفضي إلَيْهَا كانت طُرُقُهَا وَأَسْبَابُهَا تَابِعَةً لها مُعْتَبَرَةً بها، فَوَسَائِلُ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَعَاصِي في كَرَاهَتِهَا وَالْمَنْعِ منها بِحَسَبِ إفْضَائِهَا إلَى غَايَاتِهَا وَارْتِبَاطَاتِهَا بها، وَوَسَائِلُ الطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ في مَحَبَّتِهَا وَالْإِذْنِ فيها بِحَسَبِ إفْضَائِهَا إلَى غَايَتِهَا؛ فَوَسِيلَةُ الْمَقْصُودِ تَابِعَةٌ لِلْمَقْصُودِ، وَكِلَاهُمَا مَقْصُودٌ، لَكِنَّهُ مَقْصُودٌ قَصْدَ الْغَايَاتِ، وَهِيَ مَقْصُودَةٌ قَصْدَ الْوَسَائِلِ؛ فإذا حَرَّمَ الرَّبُّ تَعَالَى شيئا وَلَهُ طُرُقٌ وَوَسَائِلُ تُفْضِي إلَيْهِ فإنه يُحَرِّمُهَا وَيَمْنَعُ منها، تَحْقِيقًا لِتَحْرِيمِهِ، وَتَثْبِيتًا له، وَمَنْعًا أَنْ يُقْرَبَ حِمَاهُ، وَلَوْ أَبَاحَ الْوَسَائِلَ وَالذَّرَائِعَ الْمُفْضِيَةَ إلَيْهِ لَكَانَ ذلك نَقْضًا لِلتَّحْرِيمِ، وَإِغْرَاءً لِلنُّفُوسِ بِهِ، وَحِكْمَتُهُ تَعَالَى وَعِلْمُهُ يأبي ذلك كُلَّ الْإِبَاءِ، بَلْ سِيَاسَةُ مُلُوكِ الدُّنْيَا تَأْبَى ذلك؛ فإن أَحَدَهُمْ إذَا مَنَعَ جُنْدَهُ أو رَعِيَّتَهُ أو أَهْلَ بَيْتِهِ من شَيْءٍ ثُمَّ أَبَاحَ لهم الطُّرُقَ والأسباب وَالذَّرَائِعَ الْمُوَصِّلَةَ إلَيْهِ لَعُدَّ مُتَنَاقِضًا، وَلَحَصَلَ من رَعِيَّتِهِ وَجُنْدِهِ ضِدُّ مَقْصُودِهِ. وَكَذَلِكَ الأطباء إذَا أَرَادُوا حَسْمَ الدَّاءِ مَنَعُوا صَاحِبَهُ من الطُّرُقِ وَالذَّرَائِعِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهِ، وإلا فَسَدَ عليهم ما يَرُومُونَ إصلاحه. فما الظَّنُّ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ التي هِيَ في أَعْلَى دَرَجَاتِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْكَمَالِ؟ وَمَنْ تَأَمَّلَ مَصَادِرَهَا وَمَوَارِدَهَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ سَدَّ الذَّرَائِعَ الْمُفْضِيَةَ إلَى الْمَحَارِمِ بِأَنْ حَرَّمَهَا وَنَهَى عنها، وَالذَّرِيعَةُ: ما كان وَسِيلَةً وَطَرِيقًا إلَى الشَّيْءِ".
وقال –رحمه الله- في (ص150-152):
"الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى نهى عن الْبَيْعِ وَقْتَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً إلَى التَّشَاغُلِ بِالتِّجَارَةِ عن حُضُورِهَا.
الْوَجْهُ الثَّامِنُ: ما رَوَاهُ حُمَيْدٍ بن عبد الرحمن عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّهُ عليه وسلم- قال من الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ قالوا يا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قال نعم يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ مُتَّفَقٌ عليه وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ إنَّ من أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قِيلَ يا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قال يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ فَجَعَلَ رسول اللَّهِ -صلى اللَّهُ عليه وسلم- الرجل سَابًّا لَاعِنًا لِأَبَوَيْهِ بِتَسَبُّبِهِ إلَى ذلك وَتَوَسُّلِهِ إلَيْهِ وَإِنْ لم يَقْصِدْهُ.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّ النبي -صلى اللَّهُ عليه وسلم- كان يَكُفُّ عن قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ مع كَوْنِهِ مَصْلَحَةً لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى تَنْفِيرِ الناس عنه وَقَوْلُهُمْ إنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ فإن هذا الْقَوْلَ يُوجِبُ النُّفُورَ عن الْإِسْلَامِ مِمَّنْ دخل فيه وَمَنْ لم يَدْخُلْ فيه وَمَفْسَدَةُ التَّنْفِيرِ أَكْبَرُ من مَفْسَدَةِ تَرْكِ قَتْلِهِمْ وَمَصْلَحَةُ التَّأْلِيفِ أَعْظَمُ من مَصْلَحَةِ الْقَتْلِ.
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ لِمَا فيها من الْمَفَاسِدِ الْكَثِيرَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ على زَوَالِ الْعَقْلِ وَهَذَا ليس مِمَّا نَحْنُ فيه لَكِنْ حَرَّمَ الْقَطْرَةَ الْوَاحِدَةَ منها وَحَرَّمَ إمْسَاكَهَا لِلتَّخْلِيلِ وَنَجَسِهَا لِئَلَّا تُتَّخَذَ الْقَطْرَةُ ذَرِيعَةً إلَى الْحُسْوَةِ وَيُتَّخَذَ إمْسَاكُهَا لِلتَّخْلِيلِ ذَرِيعَةً إلَى إمْسَاكِهَا لِلشُّرْبِ ثُمَّ بَالَغَ في سَدِّ الذَّرِيعَةِ فَنَهَى عن الْخَلِيطَيْنِ وَعَنْ شُرْبِ الْعَصِيرِ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَعَنْ الِانْتِبَاذِ في الْأَوْعِيَةِ التي قد يَتَخَمَّرُ النَّبِيذُ فيها وَلَا يَعْلَمُ بِهِ حَسْمًا لِمَادَّةِ قُرْبَانِ الْمُسْكِرِ وقد صَرَّحَ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِالْعِلَّةِ في تَحْرِيمِ الْقَلِيلِ فقال: "لو رَخَّصْت لَكُمْ في هذه لَأَوْشَكَ أَنْ تَجْعَلُوهَا مِثْلَ هذه".
الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّهُ -صلى اللَّهُ عليه وسلم- حَرَّمَ الْخَلْوَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَلَوْ في إقْرَاءِ الْقُرْآنِ وَالسَّفَرَ بها وَلَوْ في الْحَجِّ وَزِيَارَةِ الْوَالِدَيْنِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ ما يُحَاذِرُ من الْفِتْنَةِ وَغَلَبَاتِ الطِّبَاعِ.
الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِغَضِّ الْبَصَرِ وَإِنْ كان إنَّمَا يَقَعُ على مَحَاسِنِ الْخِلْقَةِ وَالتَّفَكُّرِ في صُنْعِ اللَّهِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْإِرَادَةِ وَالشَّهْوَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمَحْظُورِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ النبي -صلى اللَّهُ عليه وسلم- نهى عن بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ على الْقُبُورِ وَلَعَنَ من فَعَلَ ذلك وَنَهَى عن تَجْصِيص الْقُبُورِ وَتَشْرِيفِهَا وَاِتِّخَاذِهَا مَسَاجِدَ وَعَنْ الصَّلَاةِ إلَيْهَا وَعِنْدَهَا وَعَنْ إيقاد الْمَصَابِيحِ عليها وَأَمَرَ بِتَسْوِيَتِهَا وَنَهَى عن اتِّخَاذِهَا عِيدًا وَعَنْ شَدِّ الرِّحَالِ إليها لِئَلَّا يَكُونَ ذلك ذَرِيعَةً إلَى اتِّخَاذِهَا أَوْثَانًا وَالْإِشْرَاكِ بها وَحَرَّمَ ذلك على من قَصَدَهُ وَمَنْ لم يَقْصِدْهُ بَلْ قَصَدَ خِلَافَهُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهُ -صلى اللَّهُ عليه وسلم- نهى عن الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا وكان من حِكْمَةِ ذلك أَنَّهُمَا وَقْتُ سُجُودِ الْمُشْرِكِينَ لِلشَّمْسِ وكان النَّهْيُ عن الصَّلَاةِ لِلَّهِ في ذلك الْوَقْتِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْمُشَابَهَةِ الظَّاهِرَةِ التي هِيَ ذَرِيعَةٌ إلَى الْمُشَابَهَةِ في الْقَصْدِ مع بُعْدِ هذه الذَّرِيعَةِ فَكَيْفَ بِالذَّرَائِعِ الْقَرِيبَةِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّهُ -صلى اللَّهُ عليه وسلم- نهى عن التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ في أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لا يصبغون فَخَالِفُوهُمْ وَقَوْلِهِ إنَّ الْيَهُودَ لَا يُصَلُّونَ في نِعَالِهِمْ فَخَالِفُوهُمْ وَقَوْلِهِ في عَاشُورَاءَ خَالِفُوا الْيَهُودَ صُومُوا يَوْمًا قَبْلَهُ وَيَوْمًا بَعْدَهُ وَقَوْلِهِ لَا تَشَبَّهُوا بِالْأَعَاجِمِ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عنه ليس مِنَّا من تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عنه من تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ منهم وَسِرُّ ذلك أَنَّ الْمُشَابَهَةَ في الهدى الظَّاهِرِ ذَرِيعَةٌ إلَى الْمُوَافَقَةِ في الْقَصْدِ وَالْعَمَلِ".
وقال -رحمه الله- في (ص161):
"الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: أنه نهى الْمَرْأَةَ إذا خَرَجَتْ إلَى الْمَسْجِدِ أن تَتَطَيَّبَ أو تُصِيبَ بَخُورًا وَذَلِكَ لأنه ذَرِيعَةٌ إلَى مَيْلِ الرِّجَالِ وَتَشَوُّفِهِمْ إليها، فإن رَائِحَتَهَا وَزِينَتَهَا وَصُورَتَهَا وإبداء مَحَاسِنِهَا تَدْعُو إليها؛ فَأَمَرَهَا أن تَخْرُجَ تَفِلَةً، وأن لَا تَتَطَيَّبَ، وأن تَقِفَ خَلْفَ الرِّجَالِ، وأن لَا تُسَبِّحَ في الصَّلَاةِ إذا نابها شَيْءٌ، بَلْ تُصَفِّقَ بِبَطْنِ كَفِّهَا على ظَهْرِ الأخرى كُلُّ ذلك سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ وَحِمَايَةً عن الْمَفْسَدَةِ.
الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ: أنه نهى أن تَنْعَتَ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا حتى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذلك سَدٌّ لِلذَّرِيعَةِ وَحِمَايَةٌ عن مُفْسِدَةِ وُقُوعِهَا في قَلْبِهِ وَمَيْلِهِ إلَيْهَا بِحُضُورِ صُورَتِهَا في نَفْسِهِ وَكَمْ مِمَّنْ أَحَبَّ غَيْرَهُ بِالْوَصْفِ قبل الرُّؤْيَةِ.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ: أَنَّهُ نهى عن الْجُلُوسِ بِالطَّرَقَاتِ وما ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى النَّظَرِ إلَى الْمُحَرَّمِ فلما أَخْبَرُوهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لهم من ذلك قال أَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ قالوا وما حَقُّهُ قال غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ.
الْوَجْهُ السِّتُّونَ: أَنَّهُ نهى أَنْ يَبِيتَ الرَّجُلُ عِنْدَ امْرَأَةٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَاكِحًا أو ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ وما ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ الْمَبِيتَ عِنْدَ الْأَجْنَبِيَّةِ ذَرِيعَةٌ إلَى الْمُحَرَّمِ.
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: أَنَّهُ نهى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبَاعُ حتى تُنْقَلَ عن مَكَانِهَا وما ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى جَحْدِ الْبَائِعِ الْبَيْعَ وَعَدَمِ إتْمَامِهِ إذَا رَأَى الْمُشْتَرِي قد رَبِحَ فيها فَيَغُرُّهُ الطَّمَعُ وَتَشِحُّ نَفْسُهُ بِالتَّسْلِيمِ كما هو الْوَاقِعُ وَأَكَّدَ هذا الْمَعْنَى بِالنَّهْيِ عن ربح مالم يَضْمَنْ وَهَذَا من مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَأَلْطَفُ بَابٍ لِسَدِّ الذَّرَائِعِ".
وقال –رحمه الله- في (ص163):
"الْوَجْهُ الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ: أَنَّهُ نهى عن التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ وَإِنْ كانت مَصْلَحَةُ التَّدَاوِي رَاجِحَةً على مَفْسَدَةِ مُلَابَسَتِهَا سَدًّا لِذَرِيعَةِ قُرْبَانِهَا وَاقْتِنَائِهَا وَمَحَبَّةِ النُّفُوسِ لها فَحَسَمَ عليها الْمَادَّةَ حتى في تَنَاوُلِهَا على وَجْهِ التَّدَاوِي وَهَذَا من أَبْلَغِ سَدِّ الذَّرَائِعِ".
وقال -رحمه الله- في (ص168):
" الْوَجْهُ الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ: أنه أبطل أَنْوَاعًا من النِّكَاحِ الذي يَتَرَاضَى بِهِ الزَّوْجَانِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الزنى فَمِنْهَا النِّكَاحُ بِلَا ولي فإنه أَبْطَلَهُ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الزنى فإن الزَّانِيَ لَا يَعْجَزُ أَنْ يقول لِلْمَرْأَةِ أَنْكِحِينِي نَفْسَك بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَيُشْهِدُ عليها رَجُلَيْنِ من أصحابه أو غَيْرِهِمْ فَمَنْعُهَا من ذلك سَدًّا لِذَرِيعَةِ الزنى وَمِنْ هذا تَحْرِيمُ نِكَاحِ التَّحْلِيلِ الذي لَا رَغْبَةَ لِلنَّفْسِ فيه في إمْسَاكِ الْمَرْأَةِ وَاِتِّخَاذِهَا زَوْجَةً بَلْ له وَطَرٌ فِيمَا يَقْضِيه بِمَنْزِلَةِ الزَّانِي في الْحَقِيقَةِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الصُّورَةُ وَمِنْ ذلك تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ الذي يَعْقِدُ فيه الْمُتَمَتِّعُ على الْمَرْأَةِ مُدَّةً يَقْضِي وَطَرَهُ منها فيها فَحَرَّمَ هذه الْأَنْوَاعَ كُلَّهَا سَدًّا لِذَرِيعَةِ السِّفَاحِ ولم يُبِحْ إلَّا عَقْدًا مُؤَبَّدًا يَقْصِدُ فيه كُلٌّ من الزَّوْجَيْنِ الْمَقَامَ مع صَاحِبِهِ وَيَكُونُ بِإِذْنِ الولي وَحُضُورِ الشَّاهِدَيْنِ أو ما يَقُومُ مَقَامَهُمَا من الإعلان فإذا تَدَبَّرْت حِكْمَةَ الشَّرِيعَةِ وَتَأَمَّلْتهَا حَقَّ التَّأَمُّلِ رَأَيْت تَحْرِيمَ هذه الْأَنْوَاعِ من بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ وهي من مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَكَمَالِهَا".
وقال –رحمه الله- في (ص170):
" الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالتِّسْعُونَ: أَنَّهُ تَعَالَى عَاقَبَ الَّذِينَ حَفَرُوا الْحَفَائِرَ يوم الْجُمُعَةِ فَوَقَعَ فيها السَّمَكُ يوم السَّبْتِ فَأَخَذُوهُ يوم الأحد وَمَسَخَهُمْ اللَّهُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَقِيلَ إنَّهُمْ نَصَبُوا الشِّبَاكَ يوم الْجُمُعَةِ وَأَخَذُوا الصَّيْدَ يوم الأحد وَصُورَةُ الْفِعْلِ الذي فَعَلُوهُ مُخَالِفٌ لَمَا نُهُوا عنه وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوا الشِّبَاكَ وَالْحَفَائِرَ ذَرِيعَةً إلَى أَخْذِ ما يَقَعُ فيها من الصَّيْدِ يوم السَّبْتِ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ من اصْطَادَ فيه إذْ صُورَةُ الْفِعْلِ لَا اعتبار بها بَلْ بِحَقِيقَتِهِ وَقَصْدِ فَاعِلِهِ وَيَلْزَمُ من لم يَسُدَّ الذَّرَائِعَ أن لَا يُحَرِّمَ مِثْلَ هذا كما صَرَّحُوا بِهِ في نَظِيرِهِ سَوَاءٌ وهو لو نَصَبَ قبل الإحرام شَبَكَةً فَوَقَعَ فيها صَيْدٌ وهو مُحَرَّمٌ جَازَ له أَخْذُهُ بَعْدَ الْحِلِّ وَهَذَا جَارٍ على قَوَاعِدِ من لم يَعْتَبِرْ الْمَقَاصِدَ ولم يَسُدَّ الذَّرَائِعَ".
وقال –رحمه الله- في (ص171):
" الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالتِّسْعُونَ: نَهْيُهُ عن قِتَالِ الْأُمَرَاءِ وَالْخُرُوجِ على الأئمة وَإِنْ ظَلَمُوا أو جَارُوا ما أَقَامُوا الصَّلَاةَ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْفَسَادِ الْعَظِيمِ وَالشَّرِّ الْكَثِيرِ بِقِتَالِهِمْ كما هو الْوَاقِعُ فإنه حَصَلَ بِسَبَبِ قِتَالِهِمْ وَالْخُرُوجِ عليهم أَضْعَافُ أضعاف ما هُمْ عليه والأمة في بَقَايَا تِلْكَ الشُّرُورِ إلَى الْآنِ وقال: "إذَا بُويِعَ الْخَلِيفَتَانِ فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا"، سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْفِتْنَةِ.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالتِّسْعُونَ: جَمْعُ عُثْمَانُ الْمُصْحَفَ على حَرْفٍ وَاحِدٍ من الأحرف السَّبْعَةِ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى اخْتِلَافِهِمْ في الْقُرْآنِ وَوَافَقَهُ على ذلك الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَلْنَقْتَصِرْ على هذا الْعَدَدِ من الأمثلة الْمُوَافِقِ لأسماء اللَّهِ الْحُسْنَى التي من أحصاها دخل الْجَنَّةَ تَفَاؤُلًا بِأَنَّهُ من أَحْصَى هذه الْوُجُوهَ وَعَلِمَ أنها من الدِّينِ وَعَمِلَ بها دخل الْجَنَّةَ إذْ قد يَكُونُ قد اجْتَمَعَ له مَعْرِفَةُ أسماء الرَّبِّ تَعَالَى وَمَعْرِفَةُ أحكامه وَلِلَّهِ وَرَاءَ ذلك أسماء وأحكام.
وَبَابُ سَدِّ الذَّرَائِعِ أَحَدُ أَرْبَاعِ التَّكْلِيفِ فإنه أَمْرٌ ونهى والأمر نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ وَالثَّانِي وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ وَالنَّهْيُ نَوْعَانِ أحدهما ما يَكُون المنهي عنه مَفْسَدَةً في نَفْسِهِ وَالثَّانِي ما يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى الْمَفْسَدَةِ فَصَارَ سَدُّ الذَّرَائِعِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْحَرَامِ أَحَدَ أَرْبَاعِ الدِّينِ".
أقول:
رحم الله ابن القيم، فلقد أجاد وأفاد بهذا البيان الشافي في سد الذرائع إلى المحرَّمات وبيان مقاصد الشريعة، وبعض بيانه يكفي من كان له قلب سليم ونظر سديد.
وقال الشاعر:
كل الحوادث مبدأها من النظر *** ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها *** فتك الســهام بلا قوس ولا وتر
والعبــد ما دام ذا عين يقلبها *** في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسـر مقلته ما ضـر مهجـته *** لا مـرحباً بسرور عاد بالضـرر
وقال تعالى: (وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَءَاتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...)، [سورة الأحزاب : ( 33 )].
هذه الآية خاطب الله بها زوجات رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وكلفهن بما حوته من تكاليف وهي تشمل كل نساء المسلمين.
ومن قال إنها خاصة بنساء رسول الله لا يستطيع أن يقول: إن الله لم يكلف نساء المسلمين بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وبطاعة الله ورسوله، ولا يستطيع أن يقول: إن الله أباح لنساء المسلمين أن يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى.
يؤكد شمول هذه الآية لنساء المسلمين قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبي قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً)، [سورة الأحزاب : ( 59 )].
فهذه الآية كما ترى شملت زوجات رسول الله وبناته ونساء المؤمنين، فكما أن الجلابيب حجاب للجميع كذلك البيوت حجاب للجميع، يؤكد ذلك قول الله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ)، فهذه الآية تشمل زوجات الرسول وبناته كما تشمل نساء المؤمنين.
عن عروة عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: "يَرْحَمُ الله نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ لَمَّا أَنْزَلَ الله (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ ) شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بها"( ).
وقال تعالى للمؤمنين: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْألُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ..) [سورة الأحزاب : ( 53 )].
فهذه الآية تتناول نساء المؤمنين وليست خاصة بزوجات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لأن طهارة القلوب من الأدناس والأرجاس لا بد منها ومطلوبة لكسب رضى الله ومحبته وفي آية الأمر بغض البصر: (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) ما يزيده تأكيداً.
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ على النِّسَاءِ فقال رَجُلٌ من الْأَنْصَارِ: يا رَسُولَ اللَّهِ فرأيت الْحَمْوَ قال الْحَمْوُ الْمَوْتُ"( ).
فهذا يشمل نساء الرسول ونساء المؤمنين.
فهذا التشريع الحكيم يهدف إلى درء المفاسد عن المجتمع الإسلامي وجلب المصالح التي منها طهارة القلوب.
ومن حكمة الله أن شرع على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- الفصل بين الرجال والنساء ومنع الاختلاط بين الجنسين.
عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال رسول اللَّهِ : "خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا"( ).
فهذا تشريع حكيم للفصل بين الرجال والنساء، فللرجال صفوفهم وخير صفوفهم أولها، وشرها آخرها لقربهم من النساء.
وللنساء صفوفهن وخيرها آخرها لبعدهن عن الرجال، وشرها أولها لقربهن من الرجال.
وعن جَابِرٍ بن عبد الله –رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّهِ : "خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ الْمُقَدَّمُ، وَشَرُّهَا الْمُؤَخَّرُ، وَشَرُّ صُفُوفِ النِّسَاءِ الْمُقَدَّمُ، وَخَيْرُهَا الْمُؤَخَّرُ، ثُمَّ قال: يا مَعْشَرَ النِّسَاءِ إذا سَجَدَ الرِّجَالُ فَاغْضُضْنَ أَبْصَارَكُنَّ لاَ تَرَيْنَ عَوْرَاتِ الرِّجَالِ من ضِيقِ الأُزُرِ"( ).
المناقشة التفصيلية لما جاء في المقالين المذكورين:
قال الكاتب في العنوان الرئيس:
1- "الاختلاط طبيعي في حياة الأمة ومانعوه لم يتأملوا أدلة جوازه الصريحة".
2- وجاء من العناوين الثانوية قوله: "من حرموا الاختلاط لم يقتفوا هدي المجتمع النبوي".
أقول: حاشا الصحابة من المهاجرين والأنصار، وهم المجتمع النبوي وحاشا من اتبعهم بإحسان من علماء الأمة وأئمتها وشرفائها من إقرار فتنة الاختلاط الذي يدعو إليه الكاتب وحاشا العلماء الفقهاء النبهاء الذين حرموا الاختلاط الذي ينادي به دعاة الاختلاط في شتى الميادين حاشا هؤلاء العلماء من الانحراف وعدم اقتفاء هدي المجتمع النبوي.
ونقول لكاتب المقال: "رمتني بدائها وانسلت".
3- ومن العناوين الثانوية قول الكاتب: "من يحرمون الاختلاط يعيشون فيه واقعاً واختلاط الخدم في البيوت من أشد مظاهر الاختلاط".
أقول: هناك فرق كبير جداً بين من يرى الاختلاط المحرم فينكره بقلبه ولسانه في ضوء قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " من رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيده فَإِنْ لم يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لم يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ".
فرق بين هؤلاء وبين من يرضى بهذا المنكر ويحتج به ويدعو إليه.
4- ومما جاء في مقال الكاتب: " أما ما يتعلق بجواز الاختلاط من عدمه فمرده إلى الأدلة الشرعية، وهذا ما يعنينا على وجه التحديد هنا بصورة أكبر.
ولذلك كان الخلط في حكمه أكثر جناية حين قال بتحريمه قلة لم يعتبروا بالبراءة الأصلية في إباحته، ولم يتأملوا أدلة جوازه، ولم يقتفوا هدي المجتمع النبوي فيه، وهو قدوتنا في امتثال التشريع في كل شؤون الحياة المختلفة، والحق أنه لم يكن الاختلاط من منهيات التشريع مطلقا بل كان واقعا في حياة الصحابة".
أقول: " أما ما يتعلق بجواز الاختلاط من عدمه فمرده إلى الأدلة الشرعية".
وما انطلق الذين حرموه إلا من الأدلة الشرعية وفقهها ومعرفة غاياتها ومقاصدها و"من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"، ولو فقهت ما فقهوا من الأدلة الشرعية لما خالفتهم.
5- قوله: "ولذلك كان الخلط في حكمه أكثر جناية حين قال بتحريمه قلة لم يعتبروا بالبراءة الأصلية في إباحته، ولم يتأملوا أدلة جوازه، ولم يقتفوا هدي المجتمع النبوي فيه، وهو قدوتنا في امتثال التشريع في كل شؤون الحياة المختلفة".
أقول: إنّ من أكبر الجنايات على الإسلام والمسلمين وأخلاقهم هو الدعوة إلى الاختلاط، والذين يمنعون من الاختلاط ويتنـزهون عنه وعن أسبابه ويخافون من نتائجه هم الصحابة الكرام؛ المجتمع النبوي، وسار على هديهم علماء الإسلام وشرفاء الأمة إلى يومنا هذا، وليسوا بالقلة.
فهات لنا من الصحابة ومن سار على نهجهم من دعا إلى الاختلاط وانتقص من ينهى عن الاختلاط الذي تدعو إليه؟
6- قوله: "لم يعتبروا بالبراءة الأصلية في إباحته".
أقول: هناك إباحتان، إحداهما الإباحة الشرعية، والثانية الإباحة العقلية، وقد فرّق بينهما الأصوليون.
قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في "مذكرة أصول الفقه( ) على روضة الناظر لابن قدامة" (ص44-45):
" قال المؤلف - رحمه الله -:
القسم الثالث (المباح) وحده : ما أذن الله في فعله وتركه غير مقترن بذمِّ فاعله وتاركه ولا مدحه، وهو من الشرع .. الخ كلامه .
اعلم أن الإباحة عند أهل الأصول قسمان :
الأولى : إباحة شرعية، أي عُرفت من قبل الشرع كإباحة الجماع في ليالي رمضان المنصوص عليها بقوله : " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " وتسمى هذه الإباحة الإباحة الشرعية .
الثانية : إباحة عقلية وهي تسمى في الاصطلاح البراءة الأصلية، والإباحة العقلية وهي بعينها (استصحاب العدم الأصلي حتى يرد دليلٌ ناقل عنه ).
ومن فوائد الفرق بين الإباحتين المذكورتين أن رفع الإباحة الشرعية يُسمى نسخاً كرفع إباحة الفطر في رمضان ، وجعل الإطعام بدلا عن الصوم المنصوص في قوله وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ) فإنه م
مواضيع مماثلة
» العلامة شيخنا المحدث رافع لواء الجرح و التعديل ربيع بن هادى المدخلى يردعلى الحلبى
» زرت شيخنا العلامة المحدث ربيع بن هادى المدخلى بمنزله بمكة المكرمة فوجدته راسخا شامخا كالجبل و رافعا للواء الجرح والتعديل:
» المحدث العلامة ربيع بن هادى المدخلى يرد على سيد قطب
» المحدث العلامة ربيع بن هادى المدخلى يرد على سيد قطب
» المحدث العلامة ربيع بن هادى المدخلى يرد على سيد قطب
» زرت شيخنا العلامة المحدث ربيع بن هادى المدخلى بمنزله بمكة المكرمة فوجدته راسخا شامخا كالجبل و رافعا للواء الجرح والتعديل:
» المحدث العلامة ربيع بن هادى المدخلى يرد على سيد قطب
» المحدث العلامة ربيع بن هادى المدخلى يرد على سيد قطب
» المحدث العلامة ربيع بن هادى المدخلى يرد على سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى