الجزء الثانى: عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي تأليف د. صالح بن عبدالله بن عبد الرحمن العبود
صفحة 1 من اصل 1
الجزء الثانى: عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي تأليف د. صالح بن عبدالله بن عبد الرحمن العبود
كما روى مسلم في "صحيحه": لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة ( )( ).
وكما روى البخاري في "صحيحه" في المناقب عن معاوية ؛ يقول: سمعت النبي يقول: لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم؛ حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك ( )( ).
وممن يقيم الله بهم الحجة الأئمة المجددون، فكلما جاء قرن من القرون التي تنطمس فيها أكثر معالم الدين، ويكاد ينتقض حبله، وتتعطل معظم أصوله ودعائمه؛ من تلاعب الجهال به، وقبض العلم بموت العلماء، وارتفاع أهل الجهل وترؤسهم، بعث الله من يجدد لهم دينهم، ويردهم إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه وأهل القرون الفاضلة بالدعوة والتعليم وحسن القدوة والجهاد، وذلك مصداق الحديث الشريف الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة عن رسول الله ؛ قال: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها ( )( ).
قال الشيخ عبد العزيز بن باز: "هذا الحديث إسناده جيد رجاله كلهم ثقات، وقد صححه الحاكم والحافظ العراقي والعلامة السخاوي وآخرون"( ).
وقال الألباني: "حديث صحيح، والسند صحيح، رجاله ثقات
رجال مسلم"( ).
وقال عبد المتعال الصعيدي: "قال السيوطي: اتفق الحفاظ على صحته، منهم: الحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "المدخل"، ونص الحافظ ابن حجر على صحته"( ).
وقال الإمام أحمد في خطبة كتابه "الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله"( ) "الحمد لله الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم؛ يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى؛ فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، [بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد]( ) فما أحسن أثرهم على الناس! وأقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"( ).
وليس من شرط المجدد أن يكون واحدا بعينه، أو صنفا خاصا من الناس، بل الأمر كما ذكر الشيخ ابن باز، أن الحافظ ابن كثير قال في "النهاية" لما ذكر هذا الحديث ما نصه: "وقد ادعى كل قوم في إمامهم أنه المراد بهذا الحديث، والظاهر -والله أعلم- أنه يعم حملة العلم من كل طائفة وكل صنف من أصناف العلماء؛ من محدثين ومفسرين وفقهاء ونحاة ولغويين إلى غير ذلك من الأصناف، والله أعلم"( ).
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله تعالى: "وليس من شرطه أن يقبل منه ويستجاب، ولا أن يكون معصوما في كل ما يقول؛ فإن هذا لم يثبت لأحد دون الرسول ( ).
ويقول أيضا: "ولهذا المجدد علامة يعرفها المتوسمون وينكرها المبطلون، أوضحها وأجلاها وأصدقها وأولاها محبة الرعيل الأول من هذه الأمة، والعلم بما كانوا عليه من أصول الدين وقواعده المهمة، التي أصلها الأصيل وأسها الأكبر الجليل: معرفة الله بصفاته، بصفات كماله ونعوت جلاله، وأن يوصف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله؛ من غير زيادة ولا تحريف، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وأن يعبدوه وحده لا شريك له، ويكفروا بما سواه من الأنداد والآلهة. هذا أصل دين الرسل كافة، وأول دعوتهم وآخرها، ولب شعائرهم، وحقيقة
ملتهم، وفي بسط هذه الجملة من العلم به وبشرعه ودينه وصرف الوجوه إليه ما لا يتسع له هذا الموضع، وكل الدين يدور على هذا الأصل ويتفرع عنه"( ).
ومن هؤلاء المجددين؛ الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وقد شهد له بذلك الجم الغفير من أكابر أهل العلم والدين.
يذكر الشيخ عبد الرحمن بن قاسم أن أكابر أهل عصر الشيخ شهدوا له بالعلم والدين، وأنه من جملة المجددين لما جاء به رسول رب العالمين، وكذلك أهل مصر والشام والعراق والحرمين والهند وغيرهم، وتواتر عن فضلائهم وأذكيائهم مدحه، والثناء عليه، والشهادة له أنه جدد هذا الدين( ).
وقد ذكره الشيخ محمد رشيد رضا من المجددين( ) وقال: "كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى مجددا للإسلام في بلاد نجد؛ بإرجاع أهله عن الشرك والبدع التي فشت فيهم إلى التوحيد والسنة"( ).
وقال أيضا بعد أن ذكر المجددين: "ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي من هؤلاء العدول المجددين، قام يدعو إلى
تجريد التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله خاتم النبيين وترك البدع والمعاصي، وإقامة شعائر الإسلام المتروكة، وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة"( ).
وكذلك عبد المتعال الصعيدي عده من المجددين في كتابه "المجددون في الإسلام"، وترجم له في ذلك الكتاب( ).
ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز بعدما أشار إلى أئمة الهدى الذين يمن الله بهم في الفترات ما نصه: "وكان من جملة هؤلاء الأئمة المهتدين، والدعاة المصلحين، الإمام العلامة، والحبر الفهامة، مجدد ما اندرس من معالم الإسلام في القرن الثاني عشر، والداعي إلى سنة خير البشر، الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي، طيب الله ثراه، وأكرم في الجنة مثواه"( ).
وقد شهد بذلك للشيخ محمد بن عبد الوهاب كثيرون من الثقات العدول غير من ذكرنا هنا، يطول المجال باستقصاء شهاداتهم.
والمقصود: إقامة الشهادة بأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب من المجددين، وقد قامت -ولله الحمد- قياما لا يدع شكا في أنه من
المجددين؛ فإنه عالم عامل، ومن أولئك الذين يوجدهم الله لإقامة حجته، ووصل حبل الإسلام الممتد من لدن رسول الله إلى أن يأتي أمر الله، وكلما مات منهم علم؛ أبدل الله به علما آخر من أئمة الهدى، وأعلام الهداية، ومنارات الإرشاد، وزعماء الإصلاح.
ولقد تجرد الشيخ محمد بن عبد الوهاب للدعوة إلى الله على حين غربة من الإسلام في القرن الثاني عشر، وكان على بصيرة، حيث كان عارفا بما عليه الصدر الأول من السلف الصالح، خبيرا بما انحل من عرى الإسلام لدى أهل عصره وتحولوا عنه، فقام مجاهدا ليرد الناس إلى ما كان عليه سلفهم الصالح في باب العلم النافع والعمل الصالح، والإيمان والإحسان، وترك التعلق بغير الله من الأنبياء والصالحين وعبادتهم، والاعتقاد في الأحجار والأشجار، والعيون والغيران، وتجريد المتابعة لرسول الله في الأقوال والأعمال، وهجر ما أحدثه الخلوف والأغيار.
وقيض الله له من آل سعود الذين وازروه على نصرة دين الله ورسوله، فأقبلوا على معرفة ما عنده من العلم والإرادة، حتى إذا عرفوا صدق موافقته للحق؛ نفذوا ذلك بالسلطان والإدارة، والسيف والعزيمة؛ يريدون ما عند الله تعالى، فصنع لهم من عظيم صنعه، وأظهر لهم من الدولة ما ظهروا به على سائر العرب، وكلما كان الأمر على السنة الإسلامية؛ كان في مزيد عز ونصر وظهور، ونحن لا نزال ولن نزال -إن شاء الله- ننعم بوارف ظلال عقيدة السلف الصالح التي نشرها هؤلاء، ونصرها هؤلاء، تحت دوحتي العلم والوفاء، دوحة علماء
الدعوة من ورثة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ودوحة أنصارها من ورثة الأمير الراشد محمد بن سعود، جزاهم الله خير الجزاء... والحمد لله العزيز الرحيم.
وقد اخترت أن يكون موضوع رسالتي للدكتوراه عام 1399هـ "عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي"، لأهميتها، ولأنه من المجددين؛ فعقيدته عقيدة سلفية، وعقيدة السلف الصالح عقيدة تجديد حية، تواكب الإصلاح والرقي المشروع في كل عصر ومصر، وتساير التقدم والنمو الخيري، وتزيده زكاء وبرا وشرعية، ولا تعوقه أو تؤخره أبدا... إنها الاعتقاد الجازم بأنه لا يصلح ولا يقبل سوى اتباع سبيل المؤمنين السابقين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان في هذا الدين وفي تفسيره، فتفوقوا على الشرق والغرب، وسادوا العالم كله، وكانت كلمتهم هي النافذة، وقد:
• ( ) .
وقال تعالى:
• • • ( ) .
قال الإمام مالك: "قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله وولاة الأمر من بعده سننا؛ الأخذ بها تصديق بكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر فيما خالفها، من اقتدى بها مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا".
قال مالك: "أعجبني عزم عمر في ذلك"( ).
وقال وهب بن كيسان فيما رواه عنه الإمام مالك: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"( ).
ومن يتأمل الواقع الذي نعيشه؛ يدرك أن ما نحن فيه من أمن يفوق ما فيه أهل عصرنا من الدول المجاورة وغير المجاورة هو من أثر عقيدة الشيخ السلفية التي دعا إليها، وناصره آل سعود عليها؛ كما يجد المتأمل المنصف إضاءة التاريخ الإسلامي بذلك، وأن عقيدة هذا شأنها لا ريب أن البحث عنها والدراسة فيها أهم موضوع لتحصيل العلم النافع والمعتقد الصحيح السليم، وآمن شيء هو العلم النافع والمعتقد الصحيح؛ لأن من استمسك بالعلم النافع والمعتقد الصحيح، عصم من ضلال الكفار وفسادهم الذي نغزى به من الشيوعيين وغيرهم، من الشرق والغرب، تحت شعارات زائفة ودعاوى
باطلة، لا ينخدع بها إلا من فرغ قلبه وجوارحه من عقيدة السلف الصالح وسلوكهم.
ومما قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في أهمية هذا الموضوع: "هذا الأصل الأصيل والفقه الأكبر هو أولى ما كتب فيه الكاتبون، وعني به دعاة الهدى وأنصار الحق، وهو أحق العلوم أن يعض عليه بالنواجذ وينشر بين جميع الطبقات؛ حتى يعلموا حقيقته، ويبتعدوا عما يخالفه...".
إلى أن قال في تعليل أهمية نشره: "لعظم شأنه، وشدة الضرورة إليه، ولما وقع بسبب الجهل به في غالب البلدان الإسلامية من الغلو في تعظيم القبور، ولا سيما قبور من يسمونهم بالأولياء، واتخاذ المساجد عليها، وصرف الكثير من العبادة لأهلها؛ كالدعاء، والاستغاثة، والذبح، والنذر... وغير ذلك، ولما وقع أيضا بسبب الجهل بهذا الأصل الأصيل في غالب البلدان الإسلامية من تحكيم القوانين الوضعية والآراء البشرية، والإعراض عن حكم الله ورسوله الذي هو أعدل الأحكام وأحسنها"( ).
لذلك كان موضوع عقيدة الشيخ محمد موضوعا مختارا، وفيما يلي أركز أسباب اختياري له في ثلاثة أسباب فحسب:
1- أن عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عقيدة تجديد
سلفية، اعتقدناها واعتمدناها في ديننا ودنيانا، وهي أساس وحدتنا السعودية، اجتمعنا عليها بعد الفرقة، واهتدينا بها بعد الضلال، وكانت حال أهل نجد وأهل الجزيرة العربية قبيل ظهور هذا الإمام المجدد بعقيدته السلفية أسوأ الأحوال؛ فقد كانوا متفرقين ومختلفين، يبغي بعضهم على بعض، والإسلام بينهم غريب، والضلال ظاهر، والمنكر أصبح معروفا لديهم ومألوفا، وسنبين ذلك في مبحث البيئة قبل ظهوره فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ثم إن الله تعالى جمع أهل نجد بالتوحيد؛ كما دعا إليه الشيخ وبينه عن عقيدة سلفية سليمة، وأعزهم الله بعد ذلتهم بالنصر المبين، وأغناهم بعد فقرهم بالخير العميم، واستنارت بينهم سنن رسول الله واختفت البدع، وزالت الفرقة تحت راية التوحيد التي يحملها أنصار الشيخ من آل سعود، وتطهر الحرمان الشريفان وما جاورهما من البناء على القبور ودعاء غير الله والطغيان والبدع والخرافات، ونودي في أرجائهما بالعدل والأمان، وبطلت سنن جاهلية وقوانين جائرة ما أنزل الله بها من سلطان، وبطلت جوائز القبائل التي يأخذونها على الحجاج إذا مروا بهم، واختفى قطاع الطرق وسراق الأعراب، فأمنت السبل، واطمأنت البلاد، واستقام العباد بتلك العقيدة السلفية التي أظهرها الشيخ وآل سعود، حتى أصبح السعودي علما يعرف بهذه العقيدة في الغالب.
وهذا الظهور يدل على علم الشيخ وصدق أنصاره، ولقد كان علم الشيخ علما أصيلا بميراث رسول الله وخلفه لنا في مؤلفاته
ورسائله وردوده وأجوبته؛ جمعا وتأليفا، وبيانا واستنباطا، وميراثا نبويا ورثه لمن بعده كما ورثه هو عن من قبله، ويتوارثه العلماء إلى ما شاء الله تعالى؛ كما ورد "أن العلماء ورثة الأنبياء؛ ورثوا العلم، من أخذه؛ أخذ بحظ وافر"( ).
وكان وفاء آل سعود وصدقهم موافقا لمراد الله ورسوله، فكانت الوحدة ونعمة الأمن والهداية والعيش والثروة في هذا العهد السعودي الميمون؛ كما قال تعالى: ( ).
وقد نشأ جيل جديد، وجد نفسه في نعمة هذه الوحدة، ولم يكن يعرف ضدها، وأخشى أن يلهو ويغتر، وينسى سبب نعمته فلا يأخذ به، فتنتقض عليه عرى أمنه وهدايته، وتحل عليه بديلاتها مما يغزوه عبر الأقمار الصناعية وغيرها من عقائد الكفار وأفكارهم...
فلذا رغبت في مشاركة وارثي هذا الإمام المجدد عقيدته السلفية وعلمه الأصيل وولاءه لأنصار دين الله ورسوله من آل سعود الكرام، ومن ذلك أن أخصص بحثي للدكتوراه فيها وفي أثرها، عسى الله أن يهب لي حظا وافرا من هذا العلم النافع والمعتقد السلفي السليم
الآمن، ونشره وإظهاره للناس عن علم واتباع، لا عن تقليد وابتداع، وأسأل الله أن لا يغير ما بنا من نعمة الأمن والهداية، والعيش والثروة، والاجتماع والوحدة، والله ذو الفضل والجلال والإكرام.
2- الحاجة إلى كتابة عقيدة الشيخ وعرضها مجموعة ومرتبة ومنسقة في رسالة جامعية بأسلوب الدراسات العلمية المنهجية؛ لتيسيرها ونشرها والدعوة إليها بهذا الأسلوب المألوف، سيما وقد تقاصرت الهمم وضعفت النفوس عن الصبر على مشقة البحث الطويل لكثرة المشاغل ونقص العلم.
وعقيدة الشيخ مبثوثة في مؤلفاته ومراسلاته وردوده وأجوبته واستنباطاته ونبذه وسائر آثاره في شتى الفنون والعلوم، ولما جمعت مؤلفاته العامة؛ بلغت مجلدات كبيرة وكثيرة.
والشيخ رحمه الله إنما كان يؤلف بحسب ما تستدعيه حاجات الناس، وتقتضيه مصالحهم، ويلجئ إليه واقع حياتهم وحالتهم الاعتقادية والواقع المؤلم للتصحيح والإصلاح بعقيدة السلف الصالح في الأصول والفروع؛ فهذا جعله يهتم بما هو الأولى والأهم، وما يناسب أهل زمانه ويلائمهم، ولقد خاطبهم بما يعقلون ويفهمون بلهجتهم وأسلوبهم، على أتم وجه وأكمله، ونفع الله بعلمه وعمله.
وأردت أن أقوم في هذه الرسالة بكتابة عقيدة الشيخ وعرضها، عسى أن يكون ذلك من المناسب لأهل زماننا، فيستدعيهم قراءة وقبولا.
وفي "صحيح البخاري" في (كتاب الأدب، باب قول النبي يسروا ولا تعسروا): "وكان يحب التخفيف واليسر على الناس"( ).
وفي "صحيح مسلم" في (كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة) عن أبي هريرة؛ أن رسول الله قال: من دعا إلى هدى؛ كان له من الأجر مثل أجور من تبعه؛ لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا... ( )( ).
وفي "صحيح البخاري" في (كتاب العلم، باب ما يذكر في المناولة وكتابة أهل العلم بالعلم إلى البلدان) عن أنس بن مالك؛ قال: كتب النبي كتابا (أو: أراد أن يكتب)، فقيل له: إنهم لا يقرءون كتابا إلا مختوما، فاتخذ خاتما من فضة نقشه: محمد رسول الله، كأني أنظر إلى بياضه في يده ( )( ).
وقد أورد الخطيب البغدادي في كتابه "تقييد العلم" مجموعة طيبة من الأحاديث والأخبار والأقوال والشواهد عن السلف؛ ترخص بكتابة العلم، وتبين فضلها في عرضه وحفظه ونشره وتجميل كتبه وتحسينه، وقال: قد أوردت من مشهور الآثار ومحفوظ الأحاديث والأخبار عن رسول رب العالمين وسلف الأمة الصالحين صلى الله عليه ورضي عنهم أجمعين في جواز كتب العلم وتدوينه، وتجميل ذلك
الفعل وتحسينه، ما إذا صادف بمشيئة الله قوي شك؛ رفعه، أو عارض ريب؛ قمعه ودفعه"( ).
3- بيان أن عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي عقيدة السلف الصالح.
على الرغم من أن عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي عقيدة السلف الصالح، ولم يبتدع في ذلك شيئا خلاف ما كان عليه الرسول وأصحابه وأتباعهم بإحسان، لكن طالما حكم عليه وعلى ما ظهر به من هذه العقيدة بالبدعة بغير علم، وطالما جعلت عقيدته محل أخذ ورد كثير، ليس في العالم البعيد عن دائرة الإسلام، ولكن في ذات الدائرة الإسلامية، وفيما بين المسلمين أنفسهم.
فهل يا ترى ثم ثغرات مبتدعة في الإسلام فتحت على ابن عبد الوهاب وأتباعه في عقيدته، أم أنها محكمة البناء، صحيحة في الادعاء، أصيلة في الانتماء، لكن؛ دخل عليها هؤلاء من باب مخالفتها لما كانوا عليه وكان عليه آباؤهم وأجدادهم من تقاليد عمياء وعادات جهلاء في دينهم واعتقاداتهم كانت معروفة ومألوفة لديهم، وقد درجوا عليها؛ يعدونها دينا يقربهم إلى الله، ويحسبونها قربة مسنونة، فما فجأهم إلا والشيخ يطلع عليهم بما لا يعهدون وبما لا يعرفون! فاستنكروا، ولقنهم الشيطان حجح أمثالهم السابقين؛ مثل: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون... فمن هنا؛ حكموا على
عقيدة الشيخ بالبدعة، أو من باب الحسد والبغي دخل عليه أقوام لديهم علم وجاه؛ كما قيل:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه
فالقوم أعداء له وخصوم
وهذا وذاك من الأبواب المفتوحة والسنن الجارية في هذه الدنيا؛ ليبلو الله أهلها أيهم أحسن عملا، وسنة الله في الذين خلوا من قبل على امتداد التاريخ، والله هو العزيز الغفور.
هذا أيضا مما دفع بي إلى أن أستوعب مؤلفات الشيخ وآثاره في هذا المبحث، ثم أستخلص منها عقيدته مباشرة، ليعلم من يقصد الحق أنها عقيدة السلف الصالح، أهل السنة والجماعة، الفرقة الناجية، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جناته التي تجري من تحتها الأنهار، وإن خالفت ما عليه أكثر من يدعي الإسلام، وهم ليسوا من الإسلام في شيء. أما من لا يريد الحق؛ فتقوم عليه الحجة بيسر ووضوح؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة. نصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، والدين النصيحة.
والله المستعان، عليه نتوكل وإليه المصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
هذا ولقد كتب عن تاريخ الشيخ وحياته وفكره ودعوته ومؤلفاته وآثاره وأقوال الناس فيه الشيء الكثير الجيد من قبل العلماء الباحثين والكتاب وقد استفدت منها كثيرا، لكني بالإضافة إلى الأسباب المتقدم
ذكرها أردت بهذا البحث أن أدلي بدلوي مع الدلاء، وأن أتطفل على العلماء، وأسهم بسهم مع الفضلاء؛ تشبها بهم، وحبا لهم ولمنهجهم وموضوع بحثهم، وإن لم أكن في مقامهم وسبقهم؛ فاللاحق يتبع السابق كما يتبعه من بعده؛ قال الله تعالى: • • ( ) .
وأسأل الله تعالى أن يجزي عنا العلماء وورثة الأنبياء خير الجزاء....
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
خطة البحث
هذا؛ وقد جعلت موضوع البحث من: مقدمة، ومدخل، وبابين، وخاتمة:
فأما المقدمة؛ فتضمنت بيانا لأهمية الموضوع، وأسباب اختياري له، والشكر، وخطة البحث.
وأما المدخل، فيشتمل على مبحثين:
- الأول: في البيئة من حول الشيخ في العالم الإسلامي.
والثاني: مبحث في حياة الشيخ، يتضمن ترجمته ونشأته ورحلاته وشيوخه وتلاميذه ومؤلفاته ووفاته ورثاءه.
وأما البابان:
فالباب الأول: هو في عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، ويتضمن أربعة فصول:
الفصل الأول: في منهج الشيخ رحمه الله تعالى في عقيدته ودعوته.
الفصل الثاني: في مجمل عقيدة الشيخ.
الفصل الثالث: في عقيدة الشيخ في التوحيد من مقاميه: المقام الخبري،
الفصل الرابع: هو في التحذير من نقيض عقيدة السلف الصالح أو نقيض كمالها.
الباب الثاني: في أثر عقيدة الشيخ السلفية في العالم الإسلامي، ويتضمن خمسة فصول:
الفصل الأول: في ظهور دعوة الشيخ وأسباب ومبادئ تأثيرها.
الفصل الثاني: في أثرها في الدور الأول من أدوار دولة أنصارها.
الفصل الثالث: في أثرها في الدور الثاني.
الفصل الرابع: في أثرها في الدور الثالث الحاضر.
الفصل الخامس: في أثرها في خارج سلطانها من العالم الإسلامي.
وأما الخاتمة؛ فهي تتضمن خلاصة البحث ونتيجته.
المدخل
ويشتمل على مبحثين :
- المبحث الأول: في البيئة من حول الشيخ في العالم الإسلامي.
- المبحث الثاني: في حياة الشيخ، ويتضمن: ترجمته، ونشأته، ورحلاته، وشيوخه، وتلاميذه، ومؤلفاته، ووفاته، ورثاءه.
المبحث الأول
في البيئة من حول الشيخ في العالم الإسلامي
لقد كانت البيئة من حول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في البلدان الإسلامية قد تحولت عن صبغتها الإسلامية في غالب أحوالها، سواء في العقيدة أو في السياسة، وقد حدث في أكثرها ما هو أشد من أحوال الجاهلية الأولى في العقيدة والسياسة، وما من شك أن المجتمع يفقد رشده وأمنه واستقراره إذا غلبت عليه عقيدة الجاهلية وظهرت فيه البدع والشركيات.
وهكذا كانت البيئة بصفة عامة التي واجهها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فزار بعض البلدان وشهد بيئتها، وبعض البلدان الأخرى التي لم يزرها سمع عنها.
وفيما يلي شيء من تفصيل ذلك في الأحوال السياسية والدينية:
أما الأحوال السياسية والدينية في ما سبق ظهور الدولة السلفية بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتجاوب الأمير الراشد محمد بن سعود؛ فكانت كما يلي:
نجد وأحوالها :
أما نجد؛ فإنها منذ مدة طويلة قبل ظهور دعوة الشيخ محمد لم تشهد سلطانا قويا صالحا؛ يحكم وجوده على سير الحوادث داخلها، ويوحد أجزاءها، ويحدث فيها استقرارا سياسيا وأمنا شاملا؛ فقد كانت محكومة بغلبة الأخيضريين العلويين الذين أعلنوا استقلالهم عن الخلافة العباسية، واستمر ملكهم على اليمامة حتى غلبهم القرامطة سنة 317هـ( ).
ويذكر حمد الجاسر في كتابه "مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ" أن المؤرخين يكادون يجمعون على أنه في سنة 253هـ تقريبا استولى الأخيضريون -أسرة علوية- على اليمامة، وكانوا سيئي السيرة، فلم يقتصر ضررهم على إضعاف تلك المدينة وتشتيت أهلها عند غزوهم إياها، بل شمل غيرها من مدن نجد في ذلك العهد، وانقشع أهلها من جورهم إلى أرض مصر، ولم ينتزع أحد منهم هذه الولاية؛ إذ ليس بجوارهم سلطان أو ملك قاهر، وهم ذوو شوكة، ومن فرقة الزيدية، يقولون في الأذان: محمد وعلي خير البشر، وحي على خير العمل.
ويقرر الجاسر أنه منذ أن حكم هؤلاء الأخيضريون اليمامة وما حولها من نجد إلى قيام الدولة السعودية بنصرة الدعوة الإصلاحية الدينية بعد منتصف القرن الثاني عشر الهجري واليمامة وما حولها
تعيش فترة من التاريخ مجهولة إلا نتفا ضئيلة من بعض المؤرخين؛ لأن حكم الأخيضريين قضى على مدينة حجر قصبة اليمامة وشرد أهلها وأضعف شأنها، ثم بزوال الأخيضريين لم تحكم اليمامة حكما قويا، ولم تقم فيها أية دولة ذات شأن ليهتم المؤرخون بأمرها، وبلاد نجد أصبحت كلها مجزأة إلى إمارات متفرقة وأصبحت خاضعة للدويلات الصغيرة التي حكمت البحرين والأحساء مثل القرامطة والعيونيين والجبريين الذين منهم أجود بن زامل الجبري، وكل هؤلاء اتخذوا الأحساء قاعدة لحكمهم الذي امتد إلى بلاد نجد( ).
وكانت الحروب بين البلدان النجدية قائمة، والصراع بين قبائلها المختلفة مستمرا وحادا وعنيفا، ولذا؛ كانت نجد متمزقة بين إمارات صغيرة متعادية ومتفككة، في كل قرية أمير، وفي نفس الوقت يتهدده طامع في إمارته، وربما يكون أقرب أقربائه( ) ؛ فهو خائف ومخيف، وسياسته انبثقت من هذه الحالة، وما كان بين أمراء القرى في الغالب وفاق، ولكن كل أمير يتربص بالآخر ويتحين فرص الوثوب عليه، وقد وصل الحال إلى أن القرية الواحدة تتمزق بين أميرين متعاديين أو ثلاثة أو أكثر، كل منهم يدعي لنفسه الولاية، كما هو شأن حريملاء، حيث
كانت منقسمة بين قبيلتين، كان أصلهما واحدا، ثم افترقوا إلى حزبين؛ كل منهم يدعي القول له وليس للآخر على الثاني قول، والبلد لا يرأسه رئيس واحد أو مجموعة متحدة في هدف واحد، فذلك يزع الجميع إن كان قويا( ).
وذكر ابن بشر في سابقة سنة 1120هـ أن ناصر بن حمد غدر بفوزان أمير التويم أو رئيسه، فتولى في بلد التويم محمد بن فوزان، ثم تمالأ عليه رجال فقتلوه، منهم المفرع وغيره من رؤساء البلد، وهم أربعة رجال، فلم يستقم لأحدهم ولاية، فقسموا البلد أرباعا؛ كل واحد شاخ في ربعها، فسموا المربوعة، أكثر من سنة.
قال ابن بشر: "وإنما ذكرت هذه الحكاية ليعرف من وقف عليها وعلى غيرها من السوابق نعمة الإسلام والجماعة والسمع والطاعة، ولا نعرف الأشياء إلا بأضدادها؛ فإن هذه قرية ضعيفة الرجال والمال، وصار فيها أربعة رجال؛ كل منهم يدعي الولاية على ما هو فيه"( ).
نجد لم تشهد نفوذا عثمانيا :
ولم تشهد نجد على العموم نفوذا للدولة العثمانية، فما امتد إليها سلطانها( ) ولا أتى إليها ولاة عثمانيون، ولا جابت خلال ديارها حامية تركية في الزمان الذي سبق ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
ومما يدل على هذه الحقيقة التاريخية استقراء تقسيمات الدولة العثمانية الإدارية، فمن خلال رسالة تركية عنوانها: "قوانين آل عثمان در مضامين دفتر ديوان"؛ يعني: "قوانين آل عثمان فيما يتضمنه دفتر الديوان"، ألفها يمين علي أفندي، الذي كان أمينا للدفتر الخاقاني سنة 1018هـ الموافقة لسنة 1690م، ونشرها ساطع الحصري ملحقا من ملاحق كتابه "البلاد العربية والدولة العثمانية"؛ من خلال هذه الرسالة تبين أنه منذ أوائل القرن الحادي عشر الهجري كانت دولة آل عثمان تنقسم إلى (32) إيالة، منها (14) إيالة عربية، وبلاد نجد ليست منها، ما عدا الأحساء، إن اعتبرناه من نجد( ).
ثم إن نفوذ العثمانيين ما لبث أن ضعف في جزيرة العرب نتيجة لمشاكلهم الداخلية والخارجية( ) فاضطروا في نهاية الأمر إلى ترك اليمن بسبب ثورة أئمة صنعاء ضدهم، واضطروا إلى مغادرة الأحساء أيضا أمام ثورة زعيم بني خالد براك بن غرير وأتباعه سنة 1080هـ( ).
أشراف الحجاز :
وأما الحجاز؛ فقد كان يحكمه الأشراف تحت سلطان الدولة
العثمانية، وفي القرن الثاني عشر، ابتداء من أوله، كان هؤلاء الأشراف في منازعات بينهم وحروب كانت تقوم بين الأخ وأخيه والعم وابن أخيه، وتهدر فيها الدماء، وتستحل الحرمات، فكان معدل ولاية الأمير على مكة سنة أو سنتين؛ لكثرة الاغتيال والغدر والخلاف، وكان من هوانهم على السلطان العثماني أنه يوكل أمرهم أحيانا إلى واليه على مصر، وكان والي مصر يولي من يشاء ويعزل من يشاء باسم السلطان.
ولقد تعاقب على إمارة مكة خلال القرن الثاني عشر وحده نحو ثلاثين شريفا، لم ينعم واحد منهم بالاستقرار، وصارت السلطة مثار نزاع لا نهاية له، يفرض أقواهم على الآخرين، ويتدخل السلطان التركي أحيانا في النزاع ليجلس على كرسي الحكم أحد الأخصام، ولا يتورع هؤلاء الأمراء المتنازعون عن أن يصلوا بمعاركهم إلى قلب الأماكن المقدسة؛ مخالفين بذلك نصوص القرآن والسنة، وأهملت أمور الدين، حتى لم يعد الشريف محل ثقة بأمور الإسلام في نظر المسلمين.
هذه حالة شرفاء مكة في أول ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وما كانوا قادرين على عدوانهم على أهل نجد -كما كانوا من قبل منذ القرن العاشر الهجري- أو على غير أهل نجد؛ لضعفهم وتخاذلهم وخوف بعضهم من بعض، ومع هذا؛ فقد اتخذوا تدابير عدائية في مكة ضد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى عقيدة السلف الصالح؛ فقد اعتبروه وأنصاره وهابية مبتدعة، فمنعوهم من
الحج، بل أطلقوا عليهم الكفر( ) !
الدولة العثمانية في حكم الزوال :
ولقد كانت الدولة العثمانية بأجمعها وفيما امتدت إليه سلطتها منذ أوائل القرن الثاني عشر للهجرة النبوية في حكم الزوال قبيل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله؛ فقد انهزم سلاطين آل عثمان أمام النمسا وروسيا والبندقية وغيرها من دول النصرانية بتوقيعهم ما يسمى صلح كارلوفتسي عام 1110هـ\ 1699م، وهو وثيقة انهزامهم عن حماية بلدانهم الإسلامية من هذه الدول النصرانية المعادية للإسلام والمسلمين، وبموجب تلك الهزيمة طمع الأوربيون بإزالة الدولة نهائيا، وسموا سلطان آل عثمان الرجل المريض، واتفقوا على اقتسام تركته، لكن؛ اختلفوا في نصيب كل منهم من هذه التركة التي هي البلاد العثمانية الإسلامية، فكان هذا الاختلاف هو الذي أخرهم عن إزالة شبح السلطان العثماني مدة من الزمن.
وفي الحقيقة أن السلطان العثماني أصبح منذ ذلك الوقت ليس له من الأمر في الدولة شيء، وإنما لبعض الوزراء الذين كان أصلهم من عناصر أجنبية أوربية، ومن يهود الدونمة، وماسون سالونيكا
المتظاهرين بالإسلام، ومن المعجبين بكفر النصارى وإلحاد القوميين والعلمانيين( ) ؛ حتى انقلبت الدولة العثمانية إلى مطايا استبداد وفوضى واغتيال، وقام كثير من الولاة والأمراء بالخروج عليها وتكوين حكومات مستبدة وضعيفة لا تستطيع إخضاع من في حكمها، فكثر السلب والنهب، وفقد الأمن( ).
يقول محمد كمال جمعة: "وكانت قصور السلاطين والوزراء وكبار رجال الدولة مملوءة بالجواري والسبايا، وكان بعض أولئك السبايا أجنبيات من بلاد أجنبية، فكن عيونا لدولهن على الدولة العثمانية"( ).
وقال أيضا: "وقد تعالى سلاطين هذه الدولة على الرعية، فإذا خاطبوا الرعية؛ كانوا لا يوجهون الخطاب إليها مباشرة، بل يقولون لولاتهم: بلغوا عبيد بابنا العالي"( ).
وكانت الدولة العثمانية تؤيد التصوف في مختلف طرائقه، وبصورته التي بعدت عن الإسلام بعدا شاسعا، وكانت قد دخلت فيه عادات؛ بعضها نصرانية، كالرهبانية، واللعب بذكر الله، وابتداع أساليب فيه كالرقص والغناء والصياح والأشعار والتصفيق والمدائح
والموالد، وبعضها من الهندوسية، أو الفارسية، أو اليونانية، كدعوى الحلول والاتحاد ووحدة الوجود.
والدولة العثمانية كانت ترى هذا اللون من صميم الدين الإسلامي، فكان السلاطين يخضعون لمدعي التصوف، ويبالغون في تعظيمهم، بل يغلون فيهم، حتى غلب اعتقاد العامة فيهم على همم العلماء المصلحين، وهذا بالإضافة إلى القباب والقبور والمزارات التي يقصدها الناس بالذبح والنذر والقرب والدعاء، وهي منتشرة وكثيرة في ظل الدولة العثمانية وحمايتها( ) وهي الدولة التي كانت تعد أكبر الدول الإسلامية في أيامها، وكان سلاطينها يعدون خلفاء للمسلمين، وكانت تعد دولة سنية، ولا يوجد للمسلمين دولة أوسع منها في ذلك الزمان قبيل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
الدولة الصفوية الرافضية :
أما الدولة الصفوية المعاصرة للدولة العثمانية في ذلك الزمان؛ فإنها وإن كانت تدعي الإسلام، فهي دولة رافضية على مذهب الإمامية، وكانت تغالي في الرفض، حتى إنها تحارب الدولة العثمانية لأنها منسوبة إلى السنية أشد الحرب؛ بتحريض نصارى الإنكليز، ثم انتهت بمقتل نادر شاه عام 1160هـ، واضطرب أمر بلاد فارس، وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب في سن الخامسة والأربعين رحمه الله( ).
الدولة المغولية في الهند :
وكان في ذلك الزمان يوجد في الهند الدولة المغولية( ) لكنها كانت بقية ورثها أبناء ملك الهند المغولي أكبر خان، وقد قرب الشاعر الشيعي المسمى الملا مبارك وولديه: أبا الفائز (وكان شاعرا متصوفا)، وأبا الفضل (وكان فيلسوفا على طريقة الصوفية المنحرفة)، وجعل فتح الله الشيرازي من أكابر علماء الشيعة من فارس مستشاره الشرعي، وهو شديد الوطأة على علماء أهل السنة، وألغى اللسان العربي من بلاطه، وجعل الفارسي مكانه، وكان ميالا إلى التصوف المنحرف، ويراه أرقى طريقة إسلامية، وهو على طريق تصوف أهل وحدة الوجود، وله عقائد أخرى، منها تناسخ الأرواح؛ أخذه عن البراهمة( ) مما دعا أمثال الشاه ولي الله الدهلوي (ت 1176هـ) في نهاية هذا العصر المغولي أن يقوم بجهود تكسر الجمود وتطلق العقول لتتمشى مع صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان( ).
وعندما انتهت دولة المغول في الهند، وطمعت البرتغال الكافرة
في مسلمي الهند بسبب فساد ملوك هذه الدولة المغولية؛ قامت حروب داخلية كثيرة، وتغلب فيها الهندوس، واستعمرت مسلمي الهند شركة الهند الشرقية الإنجليزية حوالي سنة 1175هـ( ).
وهذا يبين لنا كيف كان حال المسلمين في الهند قبيل ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
في المغرب الأقصى :
وكان في المغرب الأقصى دولة العلويين الذين بدأ حكمهم عام 1075هـ، ومع أنها دولة مغربية اقتصرت على إقليم المغرب؛ فقد كانت غير سليمة بسبب الفتن بين العرب والبربر والصوفية المنحرفة المنتشرة -خصوصا الطريقة الشاذلية- والبدع في الدين.( ).
في غرب إفريقية :
وكان في غرب أفريقيا مجموعة إمارات الهوسا التي كان أمراؤها قد انتسبوا إلى الإسلام، ولكن أكثرهم لم يكن ملتزما به، وكانت البدع والطرق الصوفية -خصوصا القادرية- منتشرة بين قبائل الهوسا من المسلمين، والكثير من رعايا إمارات الهوسا ما يزالون على الوثنية، ويسود الجميع روح العصبية للقبيلة، إلى جانب الفساد والمظالم في إمارات الهوسا، والحروب المستمرة بينها( ).
في أواسط آسية :
وفي أواسط آسية كانت روسيا النصرانية في عهد بطرس الأكبر قد استولت على من ينتسب إلى الإسلام في تركستان الشرقية، وكان هؤلاء المنتسبون إلى الإسلام في وادي نهر سيحون يكونون إمارات متفرقة، مما أدى إلى ضعفها أمام مطامع روسيا النصرانية، وكانت البدع والطرق الصوفية -خصوصا النقشبندية- منتشرة هناك.
في الصين :
وفي الصين شقي من ينتسب إلى الإسلام بحكم أسرة المانشو التي عملت على إرضاء البوذيين بمضايقة المسلمين.
في إندونيسيا :
وفي إندونيسيا لم يؤلف المنتسبون إلى الإسلام دولة قوية تلم شملهم، ولكن كونوا ممالك صغيرة، سادتها الخلافات الداخلية، وانتشرت فيها البدع ومخلفات جاهلية الهنود والصين والخرافات القديمة، وتغلبت على مقدراتهم الشركة الهولندية( ).
وهكذا كان حال أهل البلدان الإسلامية في أول القرن الثاني عشر الهجري.
وبمقارنة شرك المشركين في زمان الشيخ بشرك مشركي أهل الجاهلية الأولى؛ فإننا نجد أن مشركي الجاهلية الأولى يشركون في
الرخاء ويخلصون الدعاء لله في الشدة، وأما مشركو هذا الزمان، فإنهم يشركون في الرخاء والشدة على حد سواء.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "القاعدة الرابعة: أن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين؛ لأن الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة، ومشركو زماننا شركهم دائما؛ في الرخاء والشدة، والدليل قوله تعالى: ( ) " اهـ. من "القواعد الأربع".
وكان الواقع المشهود والذي سجله أهل التاريخ هو أن كثيرا ممن يعبد الأولياء وأضرحة المشايخ والسادة إنما يفزعون في حال الشدة وحلول المصائب بهم إلى الاستغاثة بمعبوداتهم من دون الله؛ من جني وولي ومعتقد؛ فهو يهتف بدعاء غير الله إن قام وإن قعد؛ ترى الرافضي إن حمل شيئا ثقيلا هتف يستعين فيقول: يا علي! أو: يا حسين! ومثله من يعبد وليا أو غيره؛ كمن يهتف ويستهل بالبدوي أو عبد القادر أو رسول الله . يدعوهم في حال الشدائد والكوارث راجيا منهم كشف ضره وشفاء مريضه.
هذا فضلا عن حال السرور والرخاء؛ فإنه في تلك الحال يتقرب إلى معبوداته بما لا يصلح إلا لله تعالى؛ يرجو مزيد رخائه ودوام سروره؛ فهو على الشرك، دائم في كل أحواله؛ بخلاف المشركين
الأولين، الذين ذكر الله قصتهم في القرآن الكريم كما ذكرنا آنفا.
ومن تَتَبُّعِ آثار الشيخ القولية يمكن استبيان صورة للحالة التي واجهها رحمه الله، ورآها منحرفة عن الدين الحق الذي جاء به رسول الله وقدمنا قوله من "القواعد الأربع" في بيان الحد الذي وصل إليه شرك المشركين في زمانه، وهو أمر واقع قد رصده أهل التاريخ، ولا يزال باقيا في البلدان التي لم تستنر بالدعوة إلى توحيد الله بالعبادة؛ كما دعا رسول الله ؛ كالذي يفعل عند البدوي بمصر، وعند مشاهد الرافضة بإيران والعراق وغير ذلك.
قال الشيخ في معنى (لا إله إلا الله) "إنها نفي الألوهية عما سوى الله تعالى من المخلوقات، حتى محمد حتى جبريل، فضلا عن غيرهما من الأولياء والصالحين، وإن هذه الألوهية هي التي تسميها العامة في زماننا: السر والولاية.
و (الإله)؛ معناه: الولي الذى فيه السر، وهو الذي يسميه الفقراء: الشيخ، ويسميه العامة: السيد وأشباه هذا، وذلك أنهم يظنون أن الله جعل لخواص الخلق منزلة يرضى أن الإنسان يلتجئ إليهم ويرجوهم ويستغيث بهم ويجعلهم واسطة بينه وبين الله؛ فالذي يزعمه أهل الشرك في زماننا أنهم وسائط هم الذين يسميهم الأولون الآلهة.
و (الواسطة): هو الإله، فقول الرجل: لا إله إلا الله؛ إبطال للوسائط".
ثم إن الشيخ جعل يبين أن الذين قاتلهم رسول الله كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، وهو أنه لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ولا يدبر الأمر إلا الله؛ كما قال تعالى: • ( ).
قال: "ومع هذا الإقرار؛ يتصدقون، ويحجون، ويعتمرون، ويتعبدون، ويتركون أشياء من المحرمات؛ خوفا من الله . ومع هذا؛ لم يدخلهم في الإسلام، ولم يحرم دماءهم وأموالهم؛ لأنهم لم يشهدوا لله بتوحيد الألوهية، وهو أنه لا يدعى إلا الله وحده لا شريك له، ولا يستغاث بغيره، ولا يذبح لغيره، ولا ينذر لغيره، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فمن استغاث بغيره، فقد كفر، ومن ذبح لغيره، فقد كفر، ومن نذر لغيره، فقد كفر".
والشيخ يبين ذلك ليشخص مشابهة جاهلية أهل زمانه في اعتقادهم لأولئك الذين كانوا في زمان رسول الله وزيادتهم عليهم، فيقول:
"فإن قال قائل من المشركين: نحن نعرف أن الله هو الخالق الرازق المدبر، لكن هؤلاء الصالحين مقربون، ونحن ندعوهم وننذر لهم وندخل عليهم ونستغيث بهم؛ نريد بذلك الوجاهة والشفاعة،
وإلا؛ فنحن نفهم أن الله هو المدبر. فقل: كلامك هذا مذهب أبي جهل وأمثاله، فإنهم يدعون عيسى وعزيرا والملائكة والأولياء يريدون ذلك.
كما قال الله تعالى: ( ).
وكما قال تعالى: ( ).
إلى أن قال الشيخ رحمه الله: "إذا عرفت هذا وتأملته تأملا جيدا؛ فقد تبين لك صفة الإسلام الذي دعا إليه نبيك وتبين لك أن كثيرا من الناس عنه بمعزل، وتبين لك معنى قوله بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ( ) .
ثم يحث رحمه الله على الكفر بالطواغيت، ومعاداتهم، وبغضهم، وبغض من أحبهم وجادل عنهم ومن لم يكفرهم وقال: ما علي منهم؟ أو قال: ما كلفني الله بهم! فقد كذب هذا على الله وافترى؛ فقد كلفه الله بهم، وفرض عليه الكفر بهم والبراءة منهم، ولو كانوا إخوانهم وأولادهم".
ثم قال الشيخ: "ولنختم الكلام بآية ذكرها الله في كتابه؛ تبين لك أن كفر المشركين من أهل زماننا أعظم كفرا من الذين قاتلهم رسول الله ؛ قال الله تعالى: • • ( ) .
فقد سمعتم أن الله سبحانه ذكر عن الكفار أنهم إذا مسهم الضر؛ تركوا السادة والمشايخ، فلم يدعوا أحدا منهم، ولم يستغيثوا به، بل أخلصوا لله وحده لا شريك له، واستغاثوا به وحده، فإذا جاء الرخاء، أشركوا.
وأنت ترى المشركين من أهل زماننا -ولعل بعضهم يدعي أنه من أهل العلم، وفيه زهد واجتهاد وعبادة- إذا مسه الضر؛ قام يستغيث، بغير الله؛ مثل: معروف، أو عبد القادر الجيلاني، وأجل من هؤلاء؛ مثل: زيد بن الخطاب، والزبير، وأجل من هؤلاء؛ مثل: رسول الله ؛ فالله المستعان.
وأعظم من ذلك وأطم أنهم يستغيثون بالطواغيت والكفرة والمردة؛ مثل: شمسان، وإدريس -ويقال له: الأشقر-، ويوسف، وأمثالهم" اهـ ( ).
ويقول الشيخ رحمه الله في رسالته إلى أهل الرياض ومنفوحة -وهو إذ ذاك مقيم في العيينة- بعد أن بين لهم معنى (لا إله إلا الله) كما سبق: (إذا عرفتم ذلك؛ فهؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم من أهل الخرج وغيرهم مشهورون عند الخاص والعام بذلك، وأنهم يترشحون له، ويأمرون به الناس؛ كلهم كفار مرتدون عن الإسلام، ومن جادل عنهم، أو أنكر على من كفرهم، أو زعم أن فعلهم هذا لو كان باطلا؛ فلا يخرجهم إلى الكفر؛ فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق، لا يقبل خطه ولا شهادته، ولا يصلي خلفه، بل لا يصح دين الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم".
ويقرر الشيخ رحمه الله تعالى وجود متصوفة اتحادية فيقول: "وكذلك أيضا من أعظم الناس ضلالا متصوفة في معكال وغيره؛ مثل: ولد موسى بن جوعان، وسلامة بن مانع... وغيرهما؛ يتبعون مذهب ابن عربي وابن الفارض، وقد ذكر أهل العلم أن ابن عربي من أئمة أهل مذهب الاتحادية، وهم أغلظ كفرا من اليهود والنصارى؛ فكل من لم يدخل في دين محمد ويتبرأ من دين الاتحادية؛ فهو كافر، بريء من الإسلام، ولا تصح الصلاة خلفه، ولا تقبل شهادته".
ويبين الشيخ رحمه الله حالة علماء السوء الذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له: "إذا رأوا من يعلم الناس ما أمرهم به محمد من شهادة أن لا إله إلا الله وما نهاهم عنه مثل الاعتقاد في المخلوقين الصالحين وغيرهم؛ قاموا يجادلون ويلبسون على الناس ويقولون: كيف تكفرون المسلمين؟ كيف تسبون الأموات؟ آل فلان أهل ضيف، آل فلان أهل كذا وكذا... ومرادهم بهذا لئلا يتبين معنى (لا إله إلا الله) ويتبين أن الاعتقاد في الصالحين النفع والضرر ودعاءهم كفر ينقل عن الملة، فيقول الناس لهم: إنكم قبل ذلك جهال، لأي شيء لم تأمرونا بهذا؟!".
ويبين الشيخ أن من جهالتهم بمعنى (لا إله إلا الله)؛ أنهم إذا رأوا من يعلم الشيوخ والصبيان أو البدو شهادة أن لا إله إلا الله؛ قالوا: قولوا لهم يتركون الحرام.
قال الشيخ رحمه الله: "وهذا من عظيم جهلهم، فإنهم لا يعرفون إلا ظلم الأموال، وأما ظلم الشرك؛ فلا يعرفونه، وقد قال الله تعالى: ( ) .
وأين الظلم الذي إذا تكلم الإنسان بكلمة منه أو مدح الطواغيت أو جادل عنهم خرج من الإسلام ولو كان صائما قائما من الظلم الذي لا يخرج من الإسلام، بل إما أن يؤدى إلى صاحبه بالقصاص وإما أن
يغفره الله؟!" اهـ.
وقد سجل تحتها عبد الله بن عيسى، فقال بعد أن حمد الله وصلى على رسوله "يقول العبد الفقير إلى الله تعالى عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن: إن أول واجب على كل ذكر وأنثى معرفة شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له".
ثم مضى ابن عيسى يقرر شأنها، ويدلل عليها من كتاب الله تعالى، ويحث على معرفتها، ويبين حكم من أشرك فيها... إلى أن قال: "فالله الله عباد الله! لا تغتروا بمن لا يعرف شهادة أن لا إله إلا الله، وتلطخ بالشرك وهو لا يشعر؛ فقد مضى أكثر حياتي ولم أعرف من أنواعه ما أعرفه اليوم؛ فلله الحمد على ما علمنا من دينه، ولا يهولنكم اليوم أن هذا الأمر غريب"( ).
إلى أن قال: "وأما الاتحادي ابن عربي صاحب "الفصوص" المخالف للنصوص، وابن الفارض الذي لدين الله محارب وبالباطل للحق معارض؛ فمن تمذهب بمذهبهما؛ فقد اتخذ مع غير الرسول سبيلا، وانتحل طريق المغضوب عليهم والضالين المخا
وكما روى البخاري في "صحيحه" في المناقب عن معاوية ؛ يقول: سمعت النبي يقول: لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم؛ حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك ( )( ).
وممن يقيم الله بهم الحجة الأئمة المجددون، فكلما جاء قرن من القرون التي تنطمس فيها أكثر معالم الدين، ويكاد ينتقض حبله، وتتعطل معظم أصوله ودعائمه؛ من تلاعب الجهال به، وقبض العلم بموت العلماء، وارتفاع أهل الجهل وترؤسهم، بعث الله من يجدد لهم دينهم، ويردهم إلى ما كان عليه الرسول وأصحابه وأهل القرون الفاضلة بالدعوة والتعليم وحسن القدوة والجهاد، وذلك مصداق الحديث الشريف الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة عن رسول الله ؛ قال: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها ( )( ).
قال الشيخ عبد العزيز بن باز: "هذا الحديث إسناده جيد رجاله كلهم ثقات، وقد صححه الحاكم والحافظ العراقي والعلامة السخاوي وآخرون"( ).
وقال الألباني: "حديث صحيح، والسند صحيح، رجاله ثقات
رجال مسلم"( ).
وقال عبد المتعال الصعيدي: "قال السيوطي: اتفق الحفاظ على صحته، منهم: الحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "المدخل"، ونص الحافظ ابن حجر على صحته"( ).
وقال الإمام أحمد في خطبة كتابه "الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله"( ) "الحمد لله الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم؛ يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى؛ فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، [بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد]( ) فما أحسن أثرهم على الناس! وأقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"( ).
وليس من شرط المجدد أن يكون واحدا بعينه، أو صنفا خاصا من الناس، بل الأمر كما ذكر الشيخ ابن باز، أن الحافظ ابن كثير قال في "النهاية" لما ذكر هذا الحديث ما نصه: "وقد ادعى كل قوم في إمامهم أنه المراد بهذا الحديث، والظاهر -والله أعلم- أنه يعم حملة العلم من كل طائفة وكل صنف من أصناف العلماء؛ من محدثين ومفسرين وفقهاء ونحاة ولغويين إلى غير ذلك من الأصناف، والله أعلم"( ).
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله تعالى: "وليس من شرطه أن يقبل منه ويستجاب، ولا أن يكون معصوما في كل ما يقول؛ فإن هذا لم يثبت لأحد دون الرسول ( ).
ويقول أيضا: "ولهذا المجدد علامة يعرفها المتوسمون وينكرها المبطلون، أوضحها وأجلاها وأصدقها وأولاها محبة الرعيل الأول من هذه الأمة، والعلم بما كانوا عليه من أصول الدين وقواعده المهمة، التي أصلها الأصيل وأسها الأكبر الجليل: معرفة الله بصفاته، بصفات كماله ونعوت جلاله، وأن يوصف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله؛ من غير زيادة ولا تحريف، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وأن يعبدوه وحده لا شريك له، ويكفروا بما سواه من الأنداد والآلهة. هذا أصل دين الرسل كافة، وأول دعوتهم وآخرها، ولب شعائرهم، وحقيقة
ملتهم، وفي بسط هذه الجملة من العلم به وبشرعه ودينه وصرف الوجوه إليه ما لا يتسع له هذا الموضع، وكل الدين يدور على هذا الأصل ويتفرع عنه"( ).
ومن هؤلاء المجددين؛ الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وقد شهد له بذلك الجم الغفير من أكابر أهل العلم والدين.
يذكر الشيخ عبد الرحمن بن قاسم أن أكابر أهل عصر الشيخ شهدوا له بالعلم والدين، وأنه من جملة المجددين لما جاء به رسول رب العالمين، وكذلك أهل مصر والشام والعراق والحرمين والهند وغيرهم، وتواتر عن فضلائهم وأذكيائهم مدحه، والثناء عليه، والشهادة له أنه جدد هذا الدين( ).
وقد ذكره الشيخ محمد رشيد رضا من المجددين( ) وقال: "كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى مجددا للإسلام في بلاد نجد؛ بإرجاع أهله عن الشرك والبدع التي فشت فيهم إلى التوحيد والسنة"( ).
وقال أيضا بعد أن ذكر المجددين: "ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي من هؤلاء العدول المجددين، قام يدعو إلى
تجريد التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله خاتم النبيين وترك البدع والمعاصي، وإقامة شعائر الإسلام المتروكة، وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة"( ).
وكذلك عبد المتعال الصعيدي عده من المجددين في كتابه "المجددون في الإسلام"، وترجم له في ذلك الكتاب( ).
ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز بعدما أشار إلى أئمة الهدى الذين يمن الله بهم في الفترات ما نصه: "وكان من جملة هؤلاء الأئمة المهتدين، والدعاة المصلحين، الإمام العلامة، والحبر الفهامة، مجدد ما اندرس من معالم الإسلام في القرن الثاني عشر، والداعي إلى سنة خير البشر، الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي، طيب الله ثراه، وأكرم في الجنة مثواه"( ).
وقد شهد بذلك للشيخ محمد بن عبد الوهاب كثيرون من الثقات العدول غير من ذكرنا هنا، يطول المجال باستقصاء شهاداتهم.
والمقصود: إقامة الشهادة بأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب من المجددين، وقد قامت -ولله الحمد- قياما لا يدع شكا في أنه من
المجددين؛ فإنه عالم عامل، ومن أولئك الذين يوجدهم الله لإقامة حجته، ووصل حبل الإسلام الممتد من لدن رسول الله إلى أن يأتي أمر الله، وكلما مات منهم علم؛ أبدل الله به علما آخر من أئمة الهدى، وأعلام الهداية، ومنارات الإرشاد، وزعماء الإصلاح.
ولقد تجرد الشيخ محمد بن عبد الوهاب للدعوة إلى الله على حين غربة من الإسلام في القرن الثاني عشر، وكان على بصيرة، حيث كان عارفا بما عليه الصدر الأول من السلف الصالح، خبيرا بما انحل من عرى الإسلام لدى أهل عصره وتحولوا عنه، فقام مجاهدا ليرد الناس إلى ما كان عليه سلفهم الصالح في باب العلم النافع والعمل الصالح، والإيمان والإحسان، وترك التعلق بغير الله من الأنبياء والصالحين وعبادتهم، والاعتقاد في الأحجار والأشجار، والعيون والغيران، وتجريد المتابعة لرسول الله في الأقوال والأعمال، وهجر ما أحدثه الخلوف والأغيار.
وقيض الله له من آل سعود الذين وازروه على نصرة دين الله ورسوله، فأقبلوا على معرفة ما عنده من العلم والإرادة، حتى إذا عرفوا صدق موافقته للحق؛ نفذوا ذلك بالسلطان والإدارة، والسيف والعزيمة؛ يريدون ما عند الله تعالى، فصنع لهم من عظيم صنعه، وأظهر لهم من الدولة ما ظهروا به على سائر العرب، وكلما كان الأمر على السنة الإسلامية؛ كان في مزيد عز ونصر وظهور، ونحن لا نزال ولن نزال -إن شاء الله- ننعم بوارف ظلال عقيدة السلف الصالح التي نشرها هؤلاء، ونصرها هؤلاء، تحت دوحتي العلم والوفاء، دوحة علماء
الدعوة من ورثة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ودوحة أنصارها من ورثة الأمير الراشد محمد بن سعود، جزاهم الله خير الجزاء... والحمد لله العزيز الرحيم.
وقد اخترت أن يكون موضوع رسالتي للدكتوراه عام 1399هـ "عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي"، لأهميتها، ولأنه من المجددين؛ فعقيدته عقيدة سلفية، وعقيدة السلف الصالح عقيدة تجديد حية، تواكب الإصلاح والرقي المشروع في كل عصر ومصر، وتساير التقدم والنمو الخيري، وتزيده زكاء وبرا وشرعية، ولا تعوقه أو تؤخره أبدا... إنها الاعتقاد الجازم بأنه لا يصلح ولا يقبل سوى اتباع سبيل المؤمنين السابقين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان في هذا الدين وفي تفسيره، فتفوقوا على الشرق والغرب، وسادوا العالم كله، وكانت كلمتهم هي النافذة، وقد:
• ( ) .
وقال تعالى:
• • • ( ) .
قال الإمام مالك: "قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله وولاة الأمر من بعده سننا؛ الأخذ بها تصديق بكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر فيما خالفها، من اقتدى بها مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا".
قال مالك: "أعجبني عزم عمر في ذلك"( ).
وقال وهب بن كيسان فيما رواه عنه الإمام مالك: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"( ).
ومن يتأمل الواقع الذي نعيشه؛ يدرك أن ما نحن فيه من أمن يفوق ما فيه أهل عصرنا من الدول المجاورة وغير المجاورة هو من أثر عقيدة الشيخ السلفية التي دعا إليها، وناصره آل سعود عليها؛ كما يجد المتأمل المنصف إضاءة التاريخ الإسلامي بذلك، وأن عقيدة هذا شأنها لا ريب أن البحث عنها والدراسة فيها أهم موضوع لتحصيل العلم النافع والمعتقد الصحيح السليم، وآمن شيء هو العلم النافع والمعتقد الصحيح؛ لأن من استمسك بالعلم النافع والمعتقد الصحيح، عصم من ضلال الكفار وفسادهم الذي نغزى به من الشيوعيين وغيرهم، من الشرق والغرب، تحت شعارات زائفة ودعاوى
باطلة، لا ينخدع بها إلا من فرغ قلبه وجوارحه من عقيدة السلف الصالح وسلوكهم.
ومما قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في أهمية هذا الموضوع: "هذا الأصل الأصيل والفقه الأكبر هو أولى ما كتب فيه الكاتبون، وعني به دعاة الهدى وأنصار الحق، وهو أحق العلوم أن يعض عليه بالنواجذ وينشر بين جميع الطبقات؛ حتى يعلموا حقيقته، ويبتعدوا عما يخالفه...".
إلى أن قال في تعليل أهمية نشره: "لعظم شأنه، وشدة الضرورة إليه، ولما وقع بسبب الجهل به في غالب البلدان الإسلامية من الغلو في تعظيم القبور، ولا سيما قبور من يسمونهم بالأولياء، واتخاذ المساجد عليها، وصرف الكثير من العبادة لأهلها؛ كالدعاء، والاستغاثة، والذبح، والنذر... وغير ذلك، ولما وقع أيضا بسبب الجهل بهذا الأصل الأصيل في غالب البلدان الإسلامية من تحكيم القوانين الوضعية والآراء البشرية، والإعراض عن حكم الله ورسوله الذي هو أعدل الأحكام وأحسنها"( ).
لذلك كان موضوع عقيدة الشيخ محمد موضوعا مختارا، وفيما يلي أركز أسباب اختياري له في ثلاثة أسباب فحسب:
1- أن عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عقيدة تجديد
سلفية، اعتقدناها واعتمدناها في ديننا ودنيانا، وهي أساس وحدتنا السعودية، اجتمعنا عليها بعد الفرقة، واهتدينا بها بعد الضلال، وكانت حال أهل نجد وأهل الجزيرة العربية قبيل ظهور هذا الإمام المجدد بعقيدته السلفية أسوأ الأحوال؛ فقد كانوا متفرقين ومختلفين، يبغي بعضهم على بعض، والإسلام بينهم غريب، والضلال ظاهر، والمنكر أصبح معروفا لديهم ومألوفا، وسنبين ذلك في مبحث البيئة قبل ظهوره فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ثم إن الله تعالى جمع أهل نجد بالتوحيد؛ كما دعا إليه الشيخ وبينه عن عقيدة سلفية سليمة، وأعزهم الله بعد ذلتهم بالنصر المبين، وأغناهم بعد فقرهم بالخير العميم، واستنارت بينهم سنن رسول الله واختفت البدع، وزالت الفرقة تحت راية التوحيد التي يحملها أنصار الشيخ من آل سعود، وتطهر الحرمان الشريفان وما جاورهما من البناء على القبور ودعاء غير الله والطغيان والبدع والخرافات، ونودي في أرجائهما بالعدل والأمان، وبطلت سنن جاهلية وقوانين جائرة ما أنزل الله بها من سلطان، وبطلت جوائز القبائل التي يأخذونها على الحجاج إذا مروا بهم، واختفى قطاع الطرق وسراق الأعراب، فأمنت السبل، واطمأنت البلاد، واستقام العباد بتلك العقيدة السلفية التي أظهرها الشيخ وآل سعود، حتى أصبح السعودي علما يعرف بهذه العقيدة في الغالب.
وهذا الظهور يدل على علم الشيخ وصدق أنصاره، ولقد كان علم الشيخ علما أصيلا بميراث رسول الله وخلفه لنا في مؤلفاته
ورسائله وردوده وأجوبته؛ جمعا وتأليفا، وبيانا واستنباطا، وميراثا نبويا ورثه لمن بعده كما ورثه هو عن من قبله، ويتوارثه العلماء إلى ما شاء الله تعالى؛ كما ورد "أن العلماء ورثة الأنبياء؛ ورثوا العلم، من أخذه؛ أخذ بحظ وافر"( ).
وكان وفاء آل سعود وصدقهم موافقا لمراد الله ورسوله، فكانت الوحدة ونعمة الأمن والهداية والعيش والثروة في هذا العهد السعودي الميمون؛ كما قال تعالى: ( ).
وقد نشأ جيل جديد، وجد نفسه في نعمة هذه الوحدة، ولم يكن يعرف ضدها، وأخشى أن يلهو ويغتر، وينسى سبب نعمته فلا يأخذ به، فتنتقض عليه عرى أمنه وهدايته، وتحل عليه بديلاتها مما يغزوه عبر الأقمار الصناعية وغيرها من عقائد الكفار وأفكارهم...
فلذا رغبت في مشاركة وارثي هذا الإمام المجدد عقيدته السلفية وعلمه الأصيل وولاءه لأنصار دين الله ورسوله من آل سعود الكرام، ومن ذلك أن أخصص بحثي للدكتوراه فيها وفي أثرها، عسى الله أن يهب لي حظا وافرا من هذا العلم النافع والمعتقد السلفي السليم
الآمن، ونشره وإظهاره للناس عن علم واتباع، لا عن تقليد وابتداع، وأسأل الله أن لا يغير ما بنا من نعمة الأمن والهداية، والعيش والثروة، والاجتماع والوحدة، والله ذو الفضل والجلال والإكرام.
2- الحاجة إلى كتابة عقيدة الشيخ وعرضها مجموعة ومرتبة ومنسقة في رسالة جامعية بأسلوب الدراسات العلمية المنهجية؛ لتيسيرها ونشرها والدعوة إليها بهذا الأسلوب المألوف، سيما وقد تقاصرت الهمم وضعفت النفوس عن الصبر على مشقة البحث الطويل لكثرة المشاغل ونقص العلم.
وعقيدة الشيخ مبثوثة في مؤلفاته ومراسلاته وردوده وأجوبته واستنباطاته ونبذه وسائر آثاره في شتى الفنون والعلوم، ولما جمعت مؤلفاته العامة؛ بلغت مجلدات كبيرة وكثيرة.
والشيخ رحمه الله إنما كان يؤلف بحسب ما تستدعيه حاجات الناس، وتقتضيه مصالحهم، ويلجئ إليه واقع حياتهم وحالتهم الاعتقادية والواقع المؤلم للتصحيح والإصلاح بعقيدة السلف الصالح في الأصول والفروع؛ فهذا جعله يهتم بما هو الأولى والأهم، وما يناسب أهل زمانه ويلائمهم، ولقد خاطبهم بما يعقلون ويفهمون بلهجتهم وأسلوبهم، على أتم وجه وأكمله، ونفع الله بعلمه وعمله.
وأردت أن أقوم في هذه الرسالة بكتابة عقيدة الشيخ وعرضها، عسى أن يكون ذلك من المناسب لأهل زماننا، فيستدعيهم قراءة وقبولا.
وفي "صحيح البخاري" في (كتاب الأدب، باب قول النبي يسروا ولا تعسروا): "وكان يحب التخفيف واليسر على الناس"( ).
وفي "صحيح مسلم" في (كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة) عن أبي هريرة؛ أن رسول الله قال: من دعا إلى هدى؛ كان له من الأجر مثل أجور من تبعه؛ لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا... ( )( ).
وفي "صحيح البخاري" في (كتاب العلم، باب ما يذكر في المناولة وكتابة أهل العلم بالعلم إلى البلدان) عن أنس بن مالك؛ قال: كتب النبي كتابا (أو: أراد أن يكتب)، فقيل له: إنهم لا يقرءون كتابا إلا مختوما، فاتخذ خاتما من فضة نقشه: محمد رسول الله، كأني أنظر إلى بياضه في يده ( )( ).
وقد أورد الخطيب البغدادي في كتابه "تقييد العلم" مجموعة طيبة من الأحاديث والأخبار والأقوال والشواهد عن السلف؛ ترخص بكتابة العلم، وتبين فضلها في عرضه وحفظه ونشره وتجميل كتبه وتحسينه، وقال: قد أوردت من مشهور الآثار ومحفوظ الأحاديث والأخبار عن رسول رب العالمين وسلف الأمة الصالحين صلى الله عليه ورضي عنهم أجمعين في جواز كتب العلم وتدوينه، وتجميل ذلك
الفعل وتحسينه، ما إذا صادف بمشيئة الله قوي شك؛ رفعه، أو عارض ريب؛ قمعه ودفعه"( ).
3- بيان أن عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي عقيدة السلف الصالح.
على الرغم من أن عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي عقيدة السلف الصالح، ولم يبتدع في ذلك شيئا خلاف ما كان عليه الرسول وأصحابه وأتباعهم بإحسان، لكن طالما حكم عليه وعلى ما ظهر به من هذه العقيدة بالبدعة بغير علم، وطالما جعلت عقيدته محل أخذ ورد كثير، ليس في العالم البعيد عن دائرة الإسلام، ولكن في ذات الدائرة الإسلامية، وفيما بين المسلمين أنفسهم.
فهل يا ترى ثم ثغرات مبتدعة في الإسلام فتحت على ابن عبد الوهاب وأتباعه في عقيدته، أم أنها محكمة البناء، صحيحة في الادعاء، أصيلة في الانتماء، لكن؛ دخل عليها هؤلاء من باب مخالفتها لما كانوا عليه وكان عليه آباؤهم وأجدادهم من تقاليد عمياء وعادات جهلاء في دينهم واعتقاداتهم كانت معروفة ومألوفة لديهم، وقد درجوا عليها؛ يعدونها دينا يقربهم إلى الله، ويحسبونها قربة مسنونة، فما فجأهم إلا والشيخ يطلع عليهم بما لا يعهدون وبما لا يعرفون! فاستنكروا، ولقنهم الشيطان حجح أمثالهم السابقين؛ مثل: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون... فمن هنا؛ حكموا على
عقيدة الشيخ بالبدعة، أو من باب الحسد والبغي دخل عليه أقوام لديهم علم وجاه؛ كما قيل:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه
فالقوم أعداء له وخصوم
وهذا وذاك من الأبواب المفتوحة والسنن الجارية في هذه الدنيا؛ ليبلو الله أهلها أيهم أحسن عملا، وسنة الله في الذين خلوا من قبل على امتداد التاريخ، والله هو العزيز الغفور.
هذا أيضا مما دفع بي إلى أن أستوعب مؤلفات الشيخ وآثاره في هذا المبحث، ثم أستخلص منها عقيدته مباشرة، ليعلم من يقصد الحق أنها عقيدة السلف الصالح، أهل السنة والجماعة، الفرقة الناجية، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جناته التي تجري من تحتها الأنهار، وإن خالفت ما عليه أكثر من يدعي الإسلام، وهم ليسوا من الإسلام في شيء. أما من لا يريد الحق؛ فتقوم عليه الحجة بيسر ووضوح؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة. نصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، والدين النصيحة.
والله المستعان، عليه نتوكل وإليه المصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
هذا ولقد كتب عن تاريخ الشيخ وحياته وفكره ودعوته ومؤلفاته وآثاره وأقوال الناس فيه الشيء الكثير الجيد من قبل العلماء الباحثين والكتاب وقد استفدت منها كثيرا، لكني بالإضافة إلى الأسباب المتقدم
ذكرها أردت بهذا البحث أن أدلي بدلوي مع الدلاء، وأن أتطفل على العلماء، وأسهم بسهم مع الفضلاء؛ تشبها بهم، وحبا لهم ولمنهجهم وموضوع بحثهم، وإن لم أكن في مقامهم وسبقهم؛ فاللاحق يتبع السابق كما يتبعه من بعده؛ قال الله تعالى: • • ( ) .
وأسأل الله تعالى أن يجزي عنا العلماء وورثة الأنبياء خير الجزاء....
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
خطة البحث
هذا؛ وقد جعلت موضوع البحث من: مقدمة، ومدخل، وبابين، وخاتمة:
فأما المقدمة؛ فتضمنت بيانا لأهمية الموضوع، وأسباب اختياري له، والشكر، وخطة البحث.
وأما المدخل، فيشتمل على مبحثين:
- الأول: في البيئة من حول الشيخ في العالم الإسلامي.
والثاني: مبحث في حياة الشيخ، يتضمن ترجمته ونشأته ورحلاته وشيوخه وتلاميذه ومؤلفاته ووفاته ورثاءه.
وأما البابان:
فالباب الأول: هو في عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، ويتضمن أربعة فصول:
الفصل الأول: في منهج الشيخ رحمه الله تعالى في عقيدته ودعوته.
الفصل الثاني: في مجمل عقيدة الشيخ.
الفصل الثالث: في عقيدة الشيخ في التوحيد من مقاميه: المقام الخبري،
الفصل الرابع: هو في التحذير من نقيض عقيدة السلف الصالح أو نقيض كمالها.
الباب الثاني: في أثر عقيدة الشيخ السلفية في العالم الإسلامي، ويتضمن خمسة فصول:
الفصل الأول: في ظهور دعوة الشيخ وأسباب ومبادئ تأثيرها.
الفصل الثاني: في أثرها في الدور الأول من أدوار دولة أنصارها.
الفصل الثالث: في أثرها في الدور الثاني.
الفصل الرابع: في أثرها في الدور الثالث الحاضر.
الفصل الخامس: في أثرها في خارج سلطانها من العالم الإسلامي.
وأما الخاتمة؛ فهي تتضمن خلاصة البحث ونتيجته.
المدخل
ويشتمل على مبحثين :
- المبحث الأول: في البيئة من حول الشيخ في العالم الإسلامي.
- المبحث الثاني: في حياة الشيخ، ويتضمن: ترجمته، ونشأته، ورحلاته، وشيوخه، وتلاميذه، ومؤلفاته، ووفاته، ورثاءه.
المبحث الأول
في البيئة من حول الشيخ في العالم الإسلامي
لقد كانت البيئة من حول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في البلدان الإسلامية قد تحولت عن صبغتها الإسلامية في غالب أحوالها، سواء في العقيدة أو في السياسة، وقد حدث في أكثرها ما هو أشد من أحوال الجاهلية الأولى في العقيدة والسياسة، وما من شك أن المجتمع يفقد رشده وأمنه واستقراره إذا غلبت عليه عقيدة الجاهلية وظهرت فيه البدع والشركيات.
وهكذا كانت البيئة بصفة عامة التي واجهها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فزار بعض البلدان وشهد بيئتها، وبعض البلدان الأخرى التي لم يزرها سمع عنها.
وفيما يلي شيء من تفصيل ذلك في الأحوال السياسية والدينية:
أما الأحوال السياسية والدينية في ما سبق ظهور الدولة السلفية بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتجاوب الأمير الراشد محمد بن سعود؛ فكانت كما يلي:
نجد وأحوالها :
أما نجد؛ فإنها منذ مدة طويلة قبل ظهور دعوة الشيخ محمد لم تشهد سلطانا قويا صالحا؛ يحكم وجوده على سير الحوادث داخلها، ويوحد أجزاءها، ويحدث فيها استقرارا سياسيا وأمنا شاملا؛ فقد كانت محكومة بغلبة الأخيضريين العلويين الذين أعلنوا استقلالهم عن الخلافة العباسية، واستمر ملكهم على اليمامة حتى غلبهم القرامطة سنة 317هـ( ).
ويذكر حمد الجاسر في كتابه "مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ" أن المؤرخين يكادون يجمعون على أنه في سنة 253هـ تقريبا استولى الأخيضريون -أسرة علوية- على اليمامة، وكانوا سيئي السيرة، فلم يقتصر ضررهم على إضعاف تلك المدينة وتشتيت أهلها عند غزوهم إياها، بل شمل غيرها من مدن نجد في ذلك العهد، وانقشع أهلها من جورهم إلى أرض مصر، ولم ينتزع أحد منهم هذه الولاية؛ إذ ليس بجوارهم سلطان أو ملك قاهر، وهم ذوو شوكة، ومن فرقة الزيدية، يقولون في الأذان: محمد وعلي خير البشر، وحي على خير العمل.
ويقرر الجاسر أنه منذ أن حكم هؤلاء الأخيضريون اليمامة وما حولها من نجد إلى قيام الدولة السعودية بنصرة الدعوة الإصلاحية الدينية بعد منتصف القرن الثاني عشر الهجري واليمامة وما حولها
تعيش فترة من التاريخ مجهولة إلا نتفا ضئيلة من بعض المؤرخين؛ لأن حكم الأخيضريين قضى على مدينة حجر قصبة اليمامة وشرد أهلها وأضعف شأنها، ثم بزوال الأخيضريين لم تحكم اليمامة حكما قويا، ولم تقم فيها أية دولة ذات شأن ليهتم المؤرخون بأمرها، وبلاد نجد أصبحت كلها مجزأة إلى إمارات متفرقة وأصبحت خاضعة للدويلات الصغيرة التي حكمت البحرين والأحساء مثل القرامطة والعيونيين والجبريين الذين منهم أجود بن زامل الجبري، وكل هؤلاء اتخذوا الأحساء قاعدة لحكمهم الذي امتد إلى بلاد نجد( ).
وكانت الحروب بين البلدان النجدية قائمة، والصراع بين قبائلها المختلفة مستمرا وحادا وعنيفا، ولذا؛ كانت نجد متمزقة بين إمارات صغيرة متعادية ومتفككة، في كل قرية أمير، وفي نفس الوقت يتهدده طامع في إمارته، وربما يكون أقرب أقربائه( ) ؛ فهو خائف ومخيف، وسياسته انبثقت من هذه الحالة، وما كان بين أمراء القرى في الغالب وفاق، ولكن كل أمير يتربص بالآخر ويتحين فرص الوثوب عليه، وقد وصل الحال إلى أن القرية الواحدة تتمزق بين أميرين متعاديين أو ثلاثة أو أكثر، كل منهم يدعي لنفسه الولاية، كما هو شأن حريملاء، حيث
كانت منقسمة بين قبيلتين، كان أصلهما واحدا، ثم افترقوا إلى حزبين؛ كل منهم يدعي القول له وليس للآخر على الثاني قول، والبلد لا يرأسه رئيس واحد أو مجموعة متحدة في هدف واحد، فذلك يزع الجميع إن كان قويا( ).
وذكر ابن بشر في سابقة سنة 1120هـ أن ناصر بن حمد غدر بفوزان أمير التويم أو رئيسه، فتولى في بلد التويم محمد بن فوزان، ثم تمالأ عليه رجال فقتلوه، منهم المفرع وغيره من رؤساء البلد، وهم أربعة رجال، فلم يستقم لأحدهم ولاية، فقسموا البلد أرباعا؛ كل واحد شاخ في ربعها، فسموا المربوعة، أكثر من سنة.
قال ابن بشر: "وإنما ذكرت هذه الحكاية ليعرف من وقف عليها وعلى غيرها من السوابق نعمة الإسلام والجماعة والسمع والطاعة، ولا نعرف الأشياء إلا بأضدادها؛ فإن هذه قرية ضعيفة الرجال والمال، وصار فيها أربعة رجال؛ كل منهم يدعي الولاية على ما هو فيه"( ).
نجد لم تشهد نفوذا عثمانيا :
ولم تشهد نجد على العموم نفوذا للدولة العثمانية، فما امتد إليها سلطانها( ) ولا أتى إليها ولاة عثمانيون، ولا جابت خلال ديارها حامية تركية في الزمان الذي سبق ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
ومما يدل على هذه الحقيقة التاريخية استقراء تقسيمات الدولة العثمانية الإدارية، فمن خلال رسالة تركية عنوانها: "قوانين آل عثمان در مضامين دفتر ديوان"؛ يعني: "قوانين آل عثمان فيما يتضمنه دفتر الديوان"، ألفها يمين علي أفندي، الذي كان أمينا للدفتر الخاقاني سنة 1018هـ الموافقة لسنة 1690م، ونشرها ساطع الحصري ملحقا من ملاحق كتابه "البلاد العربية والدولة العثمانية"؛ من خلال هذه الرسالة تبين أنه منذ أوائل القرن الحادي عشر الهجري كانت دولة آل عثمان تنقسم إلى (32) إيالة، منها (14) إيالة عربية، وبلاد نجد ليست منها، ما عدا الأحساء، إن اعتبرناه من نجد( ).
ثم إن نفوذ العثمانيين ما لبث أن ضعف في جزيرة العرب نتيجة لمشاكلهم الداخلية والخارجية( ) فاضطروا في نهاية الأمر إلى ترك اليمن بسبب ثورة أئمة صنعاء ضدهم، واضطروا إلى مغادرة الأحساء أيضا أمام ثورة زعيم بني خالد براك بن غرير وأتباعه سنة 1080هـ( ).
أشراف الحجاز :
وأما الحجاز؛ فقد كان يحكمه الأشراف تحت سلطان الدولة
العثمانية، وفي القرن الثاني عشر، ابتداء من أوله، كان هؤلاء الأشراف في منازعات بينهم وحروب كانت تقوم بين الأخ وأخيه والعم وابن أخيه، وتهدر فيها الدماء، وتستحل الحرمات، فكان معدل ولاية الأمير على مكة سنة أو سنتين؛ لكثرة الاغتيال والغدر والخلاف، وكان من هوانهم على السلطان العثماني أنه يوكل أمرهم أحيانا إلى واليه على مصر، وكان والي مصر يولي من يشاء ويعزل من يشاء باسم السلطان.
ولقد تعاقب على إمارة مكة خلال القرن الثاني عشر وحده نحو ثلاثين شريفا، لم ينعم واحد منهم بالاستقرار، وصارت السلطة مثار نزاع لا نهاية له، يفرض أقواهم على الآخرين، ويتدخل السلطان التركي أحيانا في النزاع ليجلس على كرسي الحكم أحد الأخصام، ولا يتورع هؤلاء الأمراء المتنازعون عن أن يصلوا بمعاركهم إلى قلب الأماكن المقدسة؛ مخالفين بذلك نصوص القرآن والسنة، وأهملت أمور الدين، حتى لم يعد الشريف محل ثقة بأمور الإسلام في نظر المسلمين.
هذه حالة شرفاء مكة في أول ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وما كانوا قادرين على عدوانهم على أهل نجد -كما كانوا من قبل منذ القرن العاشر الهجري- أو على غير أهل نجد؛ لضعفهم وتخاذلهم وخوف بعضهم من بعض، ومع هذا؛ فقد اتخذوا تدابير عدائية في مكة ضد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى عقيدة السلف الصالح؛ فقد اعتبروه وأنصاره وهابية مبتدعة، فمنعوهم من
الحج، بل أطلقوا عليهم الكفر( ) !
الدولة العثمانية في حكم الزوال :
ولقد كانت الدولة العثمانية بأجمعها وفيما امتدت إليه سلطتها منذ أوائل القرن الثاني عشر للهجرة النبوية في حكم الزوال قبيل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله؛ فقد انهزم سلاطين آل عثمان أمام النمسا وروسيا والبندقية وغيرها من دول النصرانية بتوقيعهم ما يسمى صلح كارلوفتسي عام 1110هـ\ 1699م، وهو وثيقة انهزامهم عن حماية بلدانهم الإسلامية من هذه الدول النصرانية المعادية للإسلام والمسلمين، وبموجب تلك الهزيمة طمع الأوربيون بإزالة الدولة نهائيا، وسموا سلطان آل عثمان الرجل المريض، واتفقوا على اقتسام تركته، لكن؛ اختلفوا في نصيب كل منهم من هذه التركة التي هي البلاد العثمانية الإسلامية، فكان هذا الاختلاف هو الذي أخرهم عن إزالة شبح السلطان العثماني مدة من الزمن.
وفي الحقيقة أن السلطان العثماني أصبح منذ ذلك الوقت ليس له من الأمر في الدولة شيء، وإنما لبعض الوزراء الذين كان أصلهم من عناصر أجنبية أوربية، ومن يهود الدونمة، وماسون سالونيكا
المتظاهرين بالإسلام، ومن المعجبين بكفر النصارى وإلحاد القوميين والعلمانيين( ) ؛ حتى انقلبت الدولة العثمانية إلى مطايا استبداد وفوضى واغتيال، وقام كثير من الولاة والأمراء بالخروج عليها وتكوين حكومات مستبدة وضعيفة لا تستطيع إخضاع من في حكمها، فكثر السلب والنهب، وفقد الأمن( ).
يقول محمد كمال جمعة: "وكانت قصور السلاطين والوزراء وكبار رجال الدولة مملوءة بالجواري والسبايا، وكان بعض أولئك السبايا أجنبيات من بلاد أجنبية، فكن عيونا لدولهن على الدولة العثمانية"( ).
وقال أيضا: "وقد تعالى سلاطين هذه الدولة على الرعية، فإذا خاطبوا الرعية؛ كانوا لا يوجهون الخطاب إليها مباشرة، بل يقولون لولاتهم: بلغوا عبيد بابنا العالي"( ).
وكانت الدولة العثمانية تؤيد التصوف في مختلف طرائقه، وبصورته التي بعدت عن الإسلام بعدا شاسعا، وكانت قد دخلت فيه عادات؛ بعضها نصرانية، كالرهبانية، واللعب بذكر الله، وابتداع أساليب فيه كالرقص والغناء والصياح والأشعار والتصفيق والمدائح
والموالد، وبعضها من الهندوسية، أو الفارسية، أو اليونانية، كدعوى الحلول والاتحاد ووحدة الوجود.
والدولة العثمانية كانت ترى هذا اللون من صميم الدين الإسلامي، فكان السلاطين يخضعون لمدعي التصوف، ويبالغون في تعظيمهم، بل يغلون فيهم، حتى غلب اعتقاد العامة فيهم على همم العلماء المصلحين، وهذا بالإضافة إلى القباب والقبور والمزارات التي يقصدها الناس بالذبح والنذر والقرب والدعاء، وهي منتشرة وكثيرة في ظل الدولة العثمانية وحمايتها( ) وهي الدولة التي كانت تعد أكبر الدول الإسلامية في أيامها، وكان سلاطينها يعدون خلفاء للمسلمين، وكانت تعد دولة سنية، ولا يوجد للمسلمين دولة أوسع منها في ذلك الزمان قبيل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
الدولة الصفوية الرافضية :
أما الدولة الصفوية المعاصرة للدولة العثمانية في ذلك الزمان؛ فإنها وإن كانت تدعي الإسلام، فهي دولة رافضية على مذهب الإمامية، وكانت تغالي في الرفض، حتى إنها تحارب الدولة العثمانية لأنها منسوبة إلى السنية أشد الحرب؛ بتحريض نصارى الإنكليز، ثم انتهت بمقتل نادر شاه عام 1160هـ، واضطرب أمر بلاد فارس، وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب في سن الخامسة والأربعين رحمه الله( ).
الدولة المغولية في الهند :
وكان في ذلك الزمان يوجد في الهند الدولة المغولية( ) لكنها كانت بقية ورثها أبناء ملك الهند المغولي أكبر خان، وقد قرب الشاعر الشيعي المسمى الملا مبارك وولديه: أبا الفائز (وكان شاعرا متصوفا)، وأبا الفضل (وكان فيلسوفا على طريقة الصوفية المنحرفة)، وجعل فتح الله الشيرازي من أكابر علماء الشيعة من فارس مستشاره الشرعي، وهو شديد الوطأة على علماء أهل السنة، وألغى اللسان العربي من بلاطه، وجعل الفارسي مكانه، وكان ميالا إلى التصوف المنحرف، ويراه أرقى طريقة إسلامية، وهو على طريق تصوف أهل وحدة الوجود، وله عقائد أخرى، منها تناسخ الأرواح؛ أخذه عن البراهمة( ) مما دعا أمثال الشاه ولي الله الدهلوي (ت 1176هـ) في نهاية هذا العصر المغولي أن يقوم بجهود تكسر الجمود وتطلق العقول لتتمشى مع صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان( ).
وعندما انتهت دولة المغول في الهند، وطمعت البرتغال الكافرة
في مسلمي الهند بسبب فساد ملوك هذه الدولة المغولية؛ قامت حروب داخلية كثيرة، وتغلب فيها الهندوس، واستعمرت مسلمي الهند شركة الهند الشرقية الإنجليزية حوالي سنة 1175هـ( ).
وهذا يبين لنا كيف كان حال المسلمين في الهند قبيل ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
في المغرب الأقصى :
وكان في المغرب الأقصى دولة العلويين الذين بدأ حكمهم عام 1075هـ، ومع أنها دولة مغربية اقتصرت على إقليم المغرب؛ فقد كانت غير سليمة بسبب الفتن بين العرب والبربر والصوفية المنحرفة المنتشرة -خصوصا الطريقة الشاذلية- والبدع في الدين.( ).
في غرب إفريقية :
وكان في غرب أفريقيا مجموعة إمارات الهوسا التي كان أمراؤها قد انتسبوا إلى الإسلام، ولكن أكثرهم لم يكن ملتزما به، وكانت البدع والطرق الصوفية -خصوصا القادرية- منتشرة بين قبائل الهوسا من المسلمين، والكثير من رعايا إمارات الهوسا ما يزالون على الوثنية، ويسود الجميع روح العصبية للقبيلة، إلى جانب الفساد والمظالم في إمارات الهوسا، والحروب المستمرة بينها( ).
في أواسط آسية :
وفي أواسط آسية كانت روسيا النصرانية في عهد بطرس الأكبر قد استولت على من ينتسب إلى الإسلام في تركستان الشرقية، وكان هؤلاء المنتسبون إلى الإسلام في وادي نهر سيحون يكونون إمارات متفرقة، مما أدى إلى ضعفها أمام مطامع روسيا النصرانية، وكانت البدع والطرق الصوفية -خصوصا النقشبندية- منتشرة هناك.
في الصين :
وفي الصين شقي من ينتسب إلى الإسلام بحكم أسرة المانشو التي عملت على إرضاء البوذيين بمضايقة المسلمين.
في إندونيسيا :
وفي إندونيسيا لم يؤلف المنتسبون إلى الإسلام دولة قوية تلم شملهم، ولكن كونوا ممالك صغيرة، سادتها الخلافات الداخلية، وانتشرت فيها البدع ومخلفات جاهلية الهنود والصين والخرافات القديمة، وتغلبت على مقدراتهم الشركة الهولندية( ).
وهكذا كان حال أهل البلدان الإسلامية في أول القرن الثاني عشر الهجري.
وبمقارنة شرك المشركين في زمان الشيخ بشرك مشركي أهل الجاهلية الأولى؛ فإننا نجد أن مشركي الجاهلية الأولى يشركون في
الرخاء ويخلصون الدعاء لله في الشدة، وأما مشركو هذا الزمان، فإنهم يشركون في الرخاء والشدة على حد سواء.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "القاعدة الرابعة: أن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين؛ لأن الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة، ومشركو زماننا شركهم دائما؛ في الرخاء والشدة، والدليل قوله تعالى: ( ) " اهـ. من "القواعد الأربع".
وكان الواقع المشهود والذي سجله أهل التاريخ هو أن كثيرا ممن يعبد الأولياء وأضرحة المشايخ والسادة إنما يفزعون في حال الشدة وحلول المصائب بهم إلى الاستغاثة بمعبوداتهم من دون الله؛ من جني وولي ومعتقد؛ فهو يهتف بدعاء غير الله إن قام وإن قعد؛ ترى الرافضي إن حمل شيئا ثقيلا هتف يستعين فيقول: يا علي! أو: يا حسين! ومثله من يعبد وليا أو غيره؛ كمن يهتف ويستهل بالبدوي أو عبد القادر أو رسول الله . يدعوهم في حال الشدائد والكوارث راجيا منهم كشف ضره وشفاء مريضه.
هذا فضلا عن حال السرور والرخاء؛ فإنه في تلك الحال يتقرب إلى معبوداته بما لا يصلح إلا لله تعالى؛ يرجو مزيد رخائه ودوام سروره؛ فهو على الشرك، دائم في كل أحواله؛ بخلاف المشركين
الأولين، الذين ذكر الله قصتهم في القرآن الكريم كما ذكرنا آنفا.
ومن تَتَبُّعِ آثار الشيخ القولية يمكن استبيان صورة للحالة التي واجهها رحمه الله، ورآها منحرفة عن الدين الحق الذي جاء به رسول الله وقدمنا قوله من "القواعد الأربع" في بيان الحد الذي وصل إليه شرك المشركين في زمانه، وهو أمر واقع قد رصده أهل التاريخ، ولا يزال باقيا في البلدان التي لم تستنر بالدعوة إلى توحيد الله بالعبادة؛ كما دعا رسول الله ؛ كالذي يفعل عند البدوي بمصر، وعند مشاهد الرافضة بإيران والعراق وغير ذلك.
قال الشيخ في معنى (لا إله إلا الله) "إنها نفي الألوهية عما سوى الله تعالى من المخلوقات، حتى محمد حتى جبريل، فضلا عن غيرهما من الأولياء والصالحين، وإن هذه الألوهية هي التي تسميها العامة في زماننا: السر والولاية.
و (الإله)؛ معناه: الولي الذى فيه السر، وهو الذي يسميه الفقراء: الشيخ، ويسميه العامة: السيد وأشباه هذا، وذلك أنهم يظنون أن الله جعل لخواص الخلق منزلة يرضى أن الإنسان يلتجئ إليهم ويرجوهم ويستغيث بهم ويجعلهم واسطة بينه وبين الله؛ فالذي يزعمه أهل الشرك في زماننا أنهم وسائط هم الذين يسميهم الأولون الآلهة.
و (الواسطة): هو الإله، فقول الرجل: لا إله إلا الله؛ إبطال للوسائط".
ثم إن الشيخ جعل يبين أن الذين قاتلهم رسول الله كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، وهو أنه لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ولا يدبر الأمر إلا الله؛ كما قال تعالى: • ( ).
قال: "ومع هذا الإقرار؛ يتصدقون، ويحجون، ويعتمرون، ويتعبدون، ويتركون أشياء من المحرمات؛ خوفا من الله . ومع هذا؛ لم يدخلهم في الإسلام، ولم يحرم دماءهم وأموالهم؛ لأنهم لم يشهدوا لله بتوحيد الألوهية، وهو أنه لا يدعى إلا الله وحده لا شريك له، ولا يستغاث بغيره، ولا يذبح لغيره، ولا ينذر لغيره، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فمن استغاث بغيره، فقد كفر، ومن ذبح لغيره، فقد كفر، ومن نذر لغيره، فقد كفر".
والشيخ يبين ذلك ليشخص مشابهة جاهلية أهل زمانه في اعتقادهم لأولئك الذين كانوا في زمان رسول الله وزيادتهم عليهم، فيقول:
"فإن قال قائل من المشركين: نحن نعرف أن الله هو الخالق الرازق المدبر، لكن هؤلاء الصالحين مقربون، ونحن ندعوهم وننذر لهم وندخل عليهم ونستغيث بهم؛ نريد بذلك الوجاهة والشفاعة،
وإلا؛ فنحن نفهم أن الله هو المدبر. فقل: كلامك هذا مذهب أبي جهل وأمثاله، فإنهم يدعون عيسى وعزيرا والملائكة والأولياء يريدون ذلك.
كما قال الله تعالى: ( ).
وكما قال تعالى: ( ).
إلى أن قال الشيخ رحمه الله: "إذا عرفت هذا وتأملته تأملا جيدا؛ فقد تبين لك صفة الإسلام الذي دعا إليه نبيك وتبين لك أن كثيرا من الناس عنه بمعزل، وتبين لك معنى قوله بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ( ) .
ثم يحث رحمه الله على الكفر بالطواغيت، ومعاداتهم، وبغضهم، وبغض من أحبهم وجادل عنهم ومن لم يكفرهم وقال: ما علي منهم؟ أو قال: ما كلفني الله بهم! فقد كذب هذا على الله وافترى؛ فقد كلفه الله بهم، وفرض عليه الكفر بهم والبراءة منهم، ولو كانوا إخوانهم وأولادهم".
ثم قال الشيخ: "ولنختم الكلام بآية ذكرها الله في كتابه؛ تبين لك أن كفر المشركين من أهل زماننا أعظم كفرا من الذين قاتلهم رسول الله ؛ قال الله تعالى: • • ( ) .
فقد سمعتم أن الله سبحانه ذكر عن الكفار أنهم إذا مسهم الضر؛ تركوا السادة والمشايخ، فلم يدعوا أحدا منهم، ولم يستغيثوا به، بل أخلصوا لله وحده لا شريك له، واستغاثوا به وحده، فإذا جاء الرخاء، أشركوا.
وأنت ترى المشركين من أهل زماننا -ولعل بعضهم يدعي أنه من أهل العلم، وفيه زهد واجتهاد وعبادة- إذا مسه الضر؛ قام يستغيث، بغير الله؛ مثل: معروف، أو عبد القادر الجيلاني، وأجل من هؤلاء؛ مثل: زيد بن الخطاب، والزبير، وأجل من هؤلاء؛ مثل: رسول الله ؛ فالله المستعان.
وأعظم من ذلك وأطم أنهم يستغيثون بالطواغيت والكفرة والمردة؛ مثل: شمسان، وإدريس -ويقال له: الأشقر-، ويوسف، وأمثالهم" اهـ ( ).
ويقول الشيخ رحمه الله في رسالته إلى أهل الرياض ومنفوحة -وهو إذ ذاك مقيم في العيينة- بعد أن بين لهم معنى (لا إله إلا الله) كما سبق: (إذا عرفتم ذلك؛ فهؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم من أهل الخرج وغيرهم مشهورون عند الخاص والعام بذلك، وأنهم يترشحون له، ويأمرون به الناس؛ كلهم كفار مرتدون عن الإسلام، ومن جادل عنهم، أو أنكر على من كفرهم، أو زعم أن فعلهم هذا لو كان باطلا؛ فلا يخرجهم إلى الكفر؛ فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق، لا يقبل خطه ولا شهادته، ولا يصلي خلفه، بل لا يصح دين الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم".
ويقرر الشيخ رحمه الله تعالى وجود متصوفة اتحادية فيقول: "وكذلك أيضا من أعظم الناس ضلالا متصوفة في معكال وغيره؛ مثل: ولد موسى بن جوعان، وسلامة بن مانع... وغيرهما؛ يتبعون مذهب ابن عربي وابن الفارض، وقد ذكر أهل العلم أن ابن عربي من أئمة أهل مذهب الاتحادية، وهم أغلظ كفرا من اليهود والنصارى؛ فكل من لم يدخل في دين محمد ويتبرأ من دين الاتحادية؛ فهو كافر، بريء من الإسلام، ولا تصح الصلاة خلفه، ولا تقبل شهادته".
ويبين الشيخ رحمه الله حالة علماء السوء الذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له: "إذا رأوا من يعلم الناس ما أمرهم به محمد من شهادة أن لا إله إلا الله وما نهاهم عنه مثل الاعتقاد في المخلوقين الصالحين وغيرهم؛ قاموا يجادلون ويلبسون على الناس ويقولون: كيف تكفرون المسلمين؟ كيف تسبون الأموات؟ آل فلان أهل ضيف، آل فلان أهل كذا وكذا... ومرادهم بهذا لئلا يتبين معنى (لا إله إلا الله) ويتبين أن الاعتقاد في الصالحين النفع والضرر ودعاءهم كفر ينقل عن الملة، فيقول الناس لهم: إنكم قبل ذلك جهال، لأي شيء لم تأمرونا بهذا؟!".
ويبين الشيخ أن من جهالتهم بمعنى (لا إله إلا الله)؛ أنهم إذا رأوا من يعلم الشيوخ والصبيان أو البدو شهادة أن لا إله إلا الله؛ قالوا: قولوا لهم يتركون الحرام.
قال الشيخ رحمه الله: "وهذا من عظيم جهلهم، فإنهم لا يعرفون إلا ظلم الأموال، وأما ظلم الشرك؛ فلا يعرفونه، وقد قال الله تعالى: ( ) .
وأين الظلم الذي إذا تكلم الإنسان بكلمة منه أو مدح الطواغيت أو جادل عنهم خرج من الإسلام ولو كان صائما قائما من الظلم الذي لا يخرج من الإسلام، بل إما أن يؤدى إلى صاحبه بالقصاص وإما أن
يغفره الله؟!" اهـ.
وقد سجل تحتها عبد الله بن عيسى، فقال بعد أن حمد الله وصلى على رسوله "يقول العبد الفقير إلى الله تعالى عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن: إن أول واجب على كل ذكر وأنثى معرفة شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له".
ثم مضى ابن عيسى يقرر شأنها، ويدلل عليها من كتاب الله تعالى، ويحث على معرفتها، ويبين حكم من أشرك فيها... إلى أن قال: "فالله الله عباد الله! لا تغتروا بمن لا يعرف شهادة أن لا إله إلا الله، وتلطخ بالشرك وهو لا يشعر؛ فقد مضى أكثر حياتي ولم أعرف من أنواعه ما أعرفه اليوم؛ فلله الحمد على ما علمنا من دينه، ولا يهولنكم اليوم أن هذا الأمر غريب"( ).
إلى أن قال: "وأما الاتحادي ابن عربي صاحب "الفصوص" المخالف للنصوص، وابن الفارض الذي لدين الله محارب وبالباطل للحق معارض؛ فمن تمذهب بمذهبهما؛ فقد اتخذ مع غير الرسول سبيلا، وانتحل طريق المغضوب عليهم والضالين المخا
عدل سابقا من قبل أبو عائشة إسماعيل خيرى في الإثنين يناير 07, 2013 5:14 am عدل 1 مرات (السبب : خطأ مطبعى)
مواضيع مماثلة
» عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي تأليف د. صالح بن عبدالله بن عبد الرحمن العبود الجزء الأول
» الجزء الثالث: عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي تأليف د. صالح بن عبدالله بن عبد الرحمن العبود
» عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي تأليف د. صالح بن عبدالله بن عبد الرحمن العبود الجزء الأول مقدمة الطبعة الثانية الحمد لله رب العالمين، و
» الجزء الثانى :من أعلام المجددين الإمام أحمد بن حنبل و شيخ الإسلام بن تيمية و شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب تأليف العلامة صالح الفوزان نقلا عن شبكة البيضاء
» الجزء الأول عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
» الجزء الثالث: عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي تأليف د. صالح بن عبدالله بن عبد الرحمن العبود
» عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي تأليف د. صالح بن عبدالله بن عبد الرحمن العبود الجزء الأول مقدمة الطبعة الثانية الحمد لله رب العالمين، و
» الجزء الثانى :من أعلام المجددين الإمام أحمد بن حنبل و شيخ الإسلام بن تيمية و شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب تأليف العلامة صالح الفوزان نقلا عن شبكة البيضاء
» الجزء الأول عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى